تسعى الولايات المتحدة، تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب وحركة «لنجعل أميركا عظيمة مجدّداً» (MAGA)، إلى تقسيم «القرية العالمية» إلى 3 كتل رئيسية: الولايات المتحدة، الصين، وروسيا. هذه الرؤية الجيوسياسية لا تعكس فقط طموحات أميركا في الهيمنة على العالم، بل تهدف أيضاً إلى إخضاع أوروبا إلى سيطرة سياسية واقتصادية أميركية، بهدف خدمة مصالحها على المدى الطويل.
الهوية القومية والاقتصادية: خلفيات رؤية «أميركا ترامب»
إنّ النظرة الأميركية تجاه «أوروبا القديمة» ليست مجرّد رؤية سطحية أو عدائية، بل استراتيجية مفصّلة تهدف إلى تغيير النظرة الأوروبية للشؤون الإقتصادية والإجتماعية والعسكرية. فالحركة التي تقِف وراء ترامب، وهي حركة مسيحية بيضاء ومحافظة، ترى أنّ التغيُّرات الكبرى التي تشهدها أوروبا تُشكِّل تهديداً لهوية أميركا وتؤثر في مصالحها.
هذه الرؤية تتغذّى على «الهوس بالهوية» القومية، إذ تتصاعد المخاوف من المهاجرين والتغيُّرات الثقافية داخل المجتمع. وفي هذا السياق، ترى الإدارة الأميركية أنّ أوروبا، بما تحمله من تحدّيات داخلية مثل الهجرة وتغيُّر المناخ، قد تتخلّى عن سياساتها الحالية لتتوافق مع النهج الأميركي، وهذا بالطبع يناسب أجندتها الاستراتيجية.
التحدّيات الأوروبية: الهجرة، تغيُّر المناخ، والمجتمع
في إطار هذه الاستراتيجية، يسعى ترامب إلى فرض تأثيره على القوانين الأوروبية التي تتعارض مع السياسة الأميركية:
- الهجرة: تختلف القوانين الأوروبية عن تلك الأميركية، إذ لا تسمح أوروبا بالأساليب المتطرّفة التي تتبعها إدارة الهجرة الأميركية (ICE) في اعتقال المهاجرين. بينما في أوروبا، هناك دعوات لسياسات هجرة أكثر صرامة، لكن من دون اللجوء إلى أساليب قمعية.
- تغيُّر المناخ: بينما تُنكِر الولايات المتحدة تغيُّر المناخ، تلتزم أوروبا بالاتفاقات البيئية. ومن هنا، فإنّ الولايات المتحدة تعتبر نهج أوروبا في الطاقة النظيفة ذريعة اقتصادية قد تخدم مصالحها.
- المجتمع: تحمي القوانين الأوروبية حقوق الأقليات الجنسية واللاجئين، وهو ما يختلف تماماً عن السياسات المطبَّقة في الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب.
- حرّية التعبير: في أوروبا، هناك حدود قانونية لحرّية التعبير، مثل حظر تحيّة النازية. لكن في الولايات المتحدة، يُحمى كل شيء بموجب التعديل الأول للدستور، بما في ذلك الرموز المرتبطة بالكراهية.
«نظام أميركي جديد» ومخاوف من هيمنة ترامب
إنّ الطموحات الأميركية تحت قيادة ترامب ليست موجّهة إلى النأي بنفسها عن أوروبا، بل إلى إعادة تشكيل القارة لتتناسب مع رؤيتها الخاصة. ومن هنا جاء التقارب مع دول مثل المجر وسلوفاكيا وإيطاليا، بالإضافة إلى دعم اليمين في فرنسا وألمانيا. هذه السياسة تهدف إلى إحياء الهوية الوطنية الغربية في أوروبا من خلال تعزيز القومية المسيحية البيضاء، وهو النهج الذي بدأ مع حركة حزب الشاي في الولايات المتحدة في أعقاب الأزمة المالية عام 2008. كما يرى ترامب أنّ هذا النهج سيُعزِّز الكتلة الغربية تحت المظلة الأميركية، لكنّه في الوقت عينه يسعى إلى تقويض المبادئ الليبرالية التي كانت تُشكِّل الأساس لعلاقات الغرب، عبر تصعيد الإنقسامات الداخلية في أوروبا.
التقارب مع روسيا والصين: ما وراء السياسات العالمية
على رغم من أنّ الصين وروسيا قد يظنان أنّ هذا التقارب الأميركي مع أوروبا يمثل بداية نهاية الهيمنة الغربية، فإنّ الولايات المتحدة ترى أنّ هذا النهج سيُعيد تأكيد سيطرتها على الغرب. فهي تسعى إلى تفكيك القيود القانونية في أوروبا المتعلّقة بالهجرة، اللوائح الاقتصادية، وحماية المناخ، بهدف بناء «غرب قوي» يستطيع مواجهة التحدّيات الإقتصادية والعسكرية التي تطرأ من الصين وروسيا.
في هذه الأثناء، كانت الولايات المتحدة قد بدأت تنفيذ سياسة «مبدأ مونرو» في أميركا اللاتينية، وأصبحت فنزويلا واحدة من أبرز الأمثلة على هذا التحوُّل. وتُعدّ هذه السياسة أحد أسس الإمبريالية الحديثة التي تُروِّج لها أميركا، إذ تعتمد على المساعدات، الحماية العسكرية، واحتكار خدمات الأقمار الصناعية.
أين يذهب المستقبل؟
مع ترسُّخ هذه السياسة، تسعى الولايات المتحدة إلى مواجهة الصين اقتصادياً وروسيا عسكرياً، بينما تبقى أوروبا في حالة من الغموض. حالياً، لا يبدو أنّ هناك إجابة واضحة حول كيفية تفاعل أوروبا مع هذه السياسات. لكن ما هو مؤكّد هو أنّ الولايات المتحدة تواصل تعزيز موقفها الإمبريالي على الساحة العالمية.
إنّ ما تطرحه سياسة «لنجعل أميركا عظيمة مجدّداً» (MAGA) يُشير إلى تحوُّل جذري في كيفية تعامل الولايات المتحدة مع شراكاتها العالمية، وخصوصاً مع أوروبا. هي ليست مجرّد رؤية اقتصادية أو سياسية، بل استراتيجية إمبريالية تهدف إلى تشكيل العالم وفقاً للمصالح الأميركية، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ التي طالما قامت عليها العلاقات الغربية.