إنَّك في مضمار بحثك عن تعريف يلقي ضوءاً وهّاجاً - بإيجاز شديد لكن غير مُخِل - على الليبرالية الجديدة (Neo-Liberalism)، فإنّ ثمة تعريفاً يُجيز لك اعتبارها اتجاهاً فكرياً، وآخر يراها ذات خلفية إيديولوجية على نحو غالب وأكيد. وأضمِّم إلى هذا وذاك، حقيقة أنّ الاتجاهَين كليهما، قد تحكَّما بالمستويَيْن السياسي والاقتصادي في الغرب، حتى لا خلاص منهما ولا محيد عنهما بأي حال. وخُذ إليك أيضاً، أّن ذَيْنِك الاتجاهَين قد اجتمعا على طائفة من الإملاءات أو قل مجموعة من السياسات، فتجد أنّ تهميش دور الدولة في الاقتصاد إلى حدود الصفر تقريباً وتفعيل حرّية السوق، من أقواها دوياً وأبعدها صدىً.
وكنتيجة حتمية من نتائج ما أوردناه للتوّ، نفضت الدولة يدها من مسؤولياتها بالمجمل، وخصوصاً تلك التي تتعلّق من قريب أو بعيد، بالشؤون الاجتماعية تجاه مواطنيها ورعاياها، وتحديداً ما يرتبط بمفهوم العدالة الاجتماعية نظرياً وعملياً؛ لا فرق. وعليه، يلزم الانتقال في الحال ومن فَوْرِنا ودونما إبطاء، إلى البحث في ثنايا كتاب (وهم العدالة الاجتماعية - The mirage of social justice)، للاقتصادي فريدريك هايك (Friedrich Hayek; 1899-1992) الذي يهاجم بشدة هذا المفهوم ومن دون هوادة أو لِيْن. كما وأنّه لا يتوقف عند هذا الحدّ ويكتفي، بل يذهب بعيداً إلى رفض أو إنكار شيء اسمه المجتمع - الذي هو ركن من أركان علم الاجتماع كما نعلم - وأنّ الأمر برمّته ليس أبعد من وجود أفراد أو أشخاص تربطهم علاقات اقتصادية تحت عباءة السوق ومعاملاته المتنوّعة.
ويحسُن ههنا، عدم إغفال المسلّمة التي تنهض على فكرة أنّ مقاربة موضوع العدالة الاجتماعية، من جانب اقتصادي بوزن هايك الحائز على «نوبل»، ويُعدّ أحد أبرز داعمي مبادئ الليبرالية الجديدة، تحملنا (المقاربة) على النظر إليه مدافعاً صلباً وعنيداً، عن الرأسمالية غير المقيّدة بشروط اجتماعية وغير الملتزمة بالضرورة بما يدور في فلك تلك الشروط وبمَن يعتقد بها.
وهذا يعني أن لا مكان للمجتمع وعدالته الاجتماعية - ولو بأبعاد متناهية في الصغر - في أروقة الليبرالية الجديدة. ولا تعجب بالمقابل، إذا وقعت بين جنباتها على أماكن رحبة واسعة، خُصِّصت لمفردات طنانة كالخصخصة مثالاً لا حصراً، وذلك تعزيزاً للقطاع الخاص على حساب القطاع العام أو إلغاء القيود التنظيمية؛ بمعنى سحب البساط من تحت الحكومة في ما يتعلّق بتحديد الأسعار في السوق.
إذاً، ثمة إشكالية بارزة بجلاء بين تطبيق العدالة الاجتماعية من جهة والتحوّل إلى تبنّي مبادئ الليبرالية الجديدة من جهة مقابلة. ولنمنح فرصة مضمونة المخرجات والنتائج، للعدالة الاجتماعية في مواجهة ذلك التحوّل الذي لا فكاك منه ولا مهرب - بسبب التنافر الحاصل بين العدالة الاجتماعية وتلك المبادئ على غير صعيد وفي أكثر من ناحية - يلزم العمل على ما يُعرَف بجغرافيا المستوى المعيشي أو ربما تطوير وتحسين جغرافيا الرعاية الاجتماعية؛ ضماناً لتوازن اجتماعي مأمول وإطلاقاً ليَد الفرد المستحق في استخلاص نصيبه من تلك الرعاية. وإذا كان ذلك كذلك، يمكن فهم عواقب التقسيم غير العادل لنتائج التغيُّر الاجتماعي، بمعية تحليلات رصينة وجادة للعدالة الاجتماعية كما العدالة المكانية؛ سواء بسواء.
وبناءً على ما تقدّم واتكاءً عليه، يكفي أن نعرف أهمية الوقوف طويلاً على دورَيْ المجتمع المدني والدولة، حتى إذا تناغم هذا الدور مع ذاك وانسجم! لا بُدّ أن يحصل الفرد الاجتماعي على محاصيل ذات حاجات حيَوية بالضرورة. وزد على ذلك، ضرورة فحص مزاياهما النسبية (المجتمع المدني والدولة)، التي يُفترَض أن تكون جد رفيعة وجد حقيقية، في مواجهة عنف السوق ومادّيته الطاغية والاتجاه نحو الليبرالية الجديدة؛ مخافة أن يكون ذلك الوقوف الطويل من غير عدة كافية ومؤونة بمقدار معلوم من الدراية والدراسة وتقليب الأمور على وجوهها كافة، ذلك أنّ المستخرجات تُظهر سلامة التفكير والأداء والسلوك من دون رَيب.
واعلم، أنّ العدالة الاجتماعية بالمعنى المتداول على نطاق رحب، تدلّ دلالة لا مِرْيَة فيها إلى المساواة في الفُرَص، وتبعاً لذلك المعنى وانسجاماً مع دلالته، يلزم تشييد بناء اجتماعي سليم من أي علة، الأمر الذي يسمح بجعل الأفراد الاجتماعيِّين متساوين بمقدار كبير، فلا تحيُّز أو محاباة من أي نوع، ما يضعهم في مواقف متقاربة في خضم المواجهة بين العدالة الاجتماعية والليبرالية الجديدة.
ومتى غابت العدالة جملة والعدالة الاجتماعية تحديداً، يُنظر إلى السيادة كسرقة منظمة بحسب القديس أوغسطين (Augustine; 354-430)؛ إذ تصبح الاستفادة من مبادئ الليبرالية الجديدة من نصيب أقلية ضئيلة من الأفراد، وذلك لا يتفق مع أبسط القواعد الإنسانية في مورد الحديث عن العدالة الاجتماعية في توزيع أرباح السوق. لذا، يلزم أخذ الأمور أخذاً ملطفاً أقرب إلى العلاج منه إلى الإقصاء أو التشفي.