هل استيقظت في حياتك ليلاً على صوت صغير يئنّ، ونزلت إلى الحظيرة في منزل العائلة أو في منزل أقارب أو أصدقاء، لتجد أنّها أصوات الحملان التي تُذبَح في الربيع؛ ففتحت باب الحظيرة لها لتهرب غير أنّها لم تتحرّك، وسارت بصمت لتُذبَح؟
من فيلم «صمت الحملان» الذي ألهَب مخيِّلتي في كل بحث، دراسة، تحليل، أو مقال، يعني قضايا الشعوب، شرقية كانت أم غربية، إلى قضايا شعوب تسير صامتة مثل الحملان، مروراً بقصص وحكايات ونوادر الذئاب مع الحملان والمكر الدموي، وصولاً إلى كتاب لماذا تُسكَّت الحملان وكيف تُدمِّر الديمقراطية النخبَوية والنيوليبرالية بعض المجتمعات وأسس حياة شعوب بأكملهما، اعتقدَت أنّ الديمقراطية والنيوليبرالية نهاية التاريخ أو تطوّر مفهوم الديمقراطية السياسية والدولة الحديثة وصلت إلى أعلى مستويات تطوّرها.
يسأل أستاذ علم النفس الألماني راينر ماوسفيلد، صاحب كتاب «لماذا تصمت الحملان؟»، كيف تصل إلى المسالخ من دون معارضة أو صوت يُذكر، وكيف إذا سقط أحدها في هاوية، وخصوصاً مَن يسير في مقدّمتها، تسارعت خلفه في السقوط إلى الهاوية؟ هل هو قدر محتوم أم طبيعة الحملان البيولوجية؛ في حين هناك شعوب تختلف عن الحملان بيولوجياً وتُعتبَر أرقى المخلوقات، لكنّها تتصرّف في الطباع مثل قطعان الحملان خلف زعمائها؟
يرى ماوسفيلد، أنّ المجتمعات الغربية التي تعتقد أنّها في القمة، تعيش ديمقراطية شكلية تُديرها نخب سياسية-اقتصادية تستخدم الدعاية، هندسة السخط، الإعلام الجماهيري، والتنشئة النيوليبرالية، لإخضاع الشعوب وضبط إدراكها. والصمت الجماعي (صمت الحملان) ليس طبيعياً، بل نتيجة تقنيات منظّمة للتلاعب بالوعي، تجعل المواطن يتخلّى عن قدرته النقدية ويقبل نظاماً يُدمِّر شروط وجوده الإجتماعي. فكيف يكون حال شعوب دول نامية أو ثالثة بالتصنيف الاقتصادي السياسي؟
هنا يبرز سؤال أساسي: لماذا تصمت الحملان أو بعض الشعوب؟ كما يفتح المؤلف كتابه بسؤال: لماذا تبدو الشعوب عاجزة عن مقاومة سلطة تزداد تركيزاً؟ يشرح أنّ الديمقراطية الحديثة تحوّلت إلى نظام لامتصاص السخط وتحويله، فيظل المواطن مهمَّشاً من دون أن يشعر، ممّا يؤدّي إلى سقوط العتب على الشعوب والمجتمعات والدول المصنّفة من الفئات المتخلّفة التي ليست بمستوى ممارسة الديمقراطية والليبرالية والنيوليبرالية.
مفارقة الديمقراطية الحديثة، أنّ الديمقراطية تُعلن أنّها حُكم الشعب، لكنّها عملياً نظام تتحكّم فيه نُخَب قليلة عبر: صناعة الرأي العام، صياغة نطاق المسموح التفكير فيه، احتكار الخبرة والتقنية.
يُظهر استاذ علم النفس ماوسفيلد أنّ الديمقراطية المعاصرة تُعيد إنتاج منطق «لا يجوز أن يحكم الشعب نفسه»، ممّا يساعد حكومات العالم الثالث أن تجلس على الكراسي مرتاحة.
أمّا عن الدعاية السياسية وتقنيات «تمويه الحقائق الصغيرة»، فيعرض المؤلِّف أدوات الخداع الديمقراطي الحديث: التحكّم في التفاصيل الصغيرة التي تُشكّل الإدراك، إنتاج روايات مؤسسية تُخفي جوهر السلطة، تصنيع العدو (الشعبوية، العداء لأميركا...) لخلق اصطفاف نفسي. هذه الأدوات تجعل التدخّل في الرأي العام يبدو طبيعياً، بل «مقبولاً أخلاقياً».
من ناحية إدارة السخط - مكافحة التمرّد وتأجيجه، يشرح استاذ علم النفس الاجتماعي والمجتمعي، كيف تُدير النُخَب السخط الشعبي عبر: امتصاص الغضب، إعادة توجيه التمرّد نحو أهداف ثانوية، تحويل النقد الجذري إلى احتجاج آمن لا يمسّ بنية السلطة. ويُظهر أنّ «مكافحة التمرّد» لم تعُد مفهوماً عسكرياً فقط، بل أداة سياسية يومية.
في محور فنّ الخداع وتسميم العقل، يعرض المؤلف مجموعة من تقنيات التحكّم النفسي: الإغراق المعلوماتي، خلق شعور بالعجز، ترسيخ الانطباع بأنّ البديل مستحيل. ويشرح أنّ الاعتماد على «الخبراء» ليس بريئاً، بل وسيلة لإخضاع المواطن عبر سلطة معرفية غير قابلة للنقاش.
وهنا يبرز سؤال أساسي، هل يمكن حماية النفس من التلاعب؟ يطرح ماوسفيلد سؤال المقاومة: كيف يمكن للفرد أن يكتشف آليات التلاعب وأن يستعيد ملكيّته لوَعيه؟ ويقترح أدوات أهمّها: تنمية الوعي النقدي، فهم تاريخ الدعاية، إدراك البُنى العميقة للسلطة، إعادة بناء مفهوم المواطن الناضج.
يكشف التاريخ الطويل لرهبة النخب من فكرة حُكم الشعب، ويوضّح: كيف تُدار السياسة عبر القوّة الناعمة وتُقسّم المجتمعات بين «نخبة» و«جمهور»، وكيف يُبرَّر خداع الشعب بزعم «حمايته من نفسه»، إدارة الديمقراطية عبر التلقين العقائدي.
في هذا القسم يشرح المؤلف: النيوليبرالية بوصفها إيديولوجيا شمولية، المنظمات غير الحكومية كأدوات لتصدير القِيَم الغربية، الديمقراطية التمثيلية كآلية لمنع الديمقراطية الحقيقية.
ولتطوير ديمقراطية بلا ديمقراطية، يتناول حوارات موسّعة حول آليات التدريب النفسي الجماعي على قبول السوق، توسيع سلطة الشركات، تآكل مفهوم الإرادة الشعبية، إنشاء ديمقراطية «مفرغة» من المشاركة الشعبية.
وعن الإعلام الجماهيري كأداة للتلقين، يُحلِّل ماوسفيلد كيفية صناعة الواقع عبر الإعلام، كيف تُقمع الأصوات المعارضة، دور الصحافيِّين والمثقفين كـ«أوصياء» على الخطاب العام، انكماش نطاق النقاش إلى «الوسط الشبح» الذي يُخفي التعدُّد الحقيقي.
وكيف يساهم الجمهور في ضبط نفسه؟ يشرح أنّ القطيع الضال يُلزِم نفسه ذاتياً عبر ترديد الرواية السائدة، نبذ المعارضة، الخضوع لـ«حدود الممكن» التي ترسمها النخب، ويُعيد تحليل الجدل الكلاسيكي بين لِيبهارت وديوي حول عقلانية الجمهور.
وبشأن الليبرالية الجديدة والعنصرية الرأسمالية، يتناول تحوّل الأحزاب إلى تكتلات وسطية بلا برامج، دور الانتخابات في إنتاج شرعية زائفة، «العنصرية الرأسمالية»، رؤية السوق للإنسان كقيمة اقتصادية، صناعة «سادة البشرية» من كبار الممولين والشركات العابرة للحدود.
وتأتي الديمقراطية والتعذيب الأبيض كأخطر فصول الكتاب، فيشرح كيف ساهم علم النفس في تحسين تقنيات التعذيب، الفرق بين التعذيب الأسود (الجسدي) والأبيض (النفسي)، وكيف يُخفى التعذيب عبر إجراءات قانونية وإعلامية، ومسؤولية العلماء في تطوير آليات السيطرة على النفس البشرية.
استقبل الأكاديميّون الكتاب باعتباره نقداً جذرياً جريئاً للبنية الديمقراطية الغربية، تحليلاً نفسياً-سياسياً للنيوليبرالية باعتبارها مشروعاً للسيطرة، امتداداً لمدرسة الدعاية السياسية من ناعوم تشومسكي إلى هيرمان، لكنّ بعض النقّاد رأوا أنّه يُقدِّم رؤية «قاتمة جداً» وأنّه يميل إلى نظرية السلطة الشمولية من دون إبراز إمكانات التغيير.
مغزى «استاذ علم النفس» الفكري أن يُثبِت أنّ الحرّية السياسية في السياق النيوليبرالي مجرّد وهم، صمت الشعوب ليس فطرياً بل مصطنع. الديمقراطية تحتاج إلى استعادة السلطة المعرفية من أيدي النُخَب، مقاومة التلاعب تبدأ من تفكيك آليات إنتاج الوعي، إنّه نداء لإحياء فكرة المواطن القادر على التفكير والعمل خارج الإطار الذي ترسمه السلطة.