حتى لا يتحوّل الصمت إلى قبول والتجاهل إلى شراكة صامتة!
محمود القيسي
Wednesday, 24-Dec-2025 07:24

«أن يكون الأنسان أعمى هذا شيء، وأن تكون له عينان سليمتان ولا يبصر فهذا شيء آخر». في مسرحيّته «رحلة حنظلة»، لا يتحدّث الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونّوس عن فقدان البصر، بل يضع الإنسان أمام مسؤولية وَعيه. فالمأساة، في نظر ونّوس، لا تكمن في العجز المفروض، بل في امتلاك البصيرة ثم تعطيلها طَوعاً، حين يتحوّل الصمت إلى قبول، والتجاهل إلى شراكة صامتة.

اعتقد المفكر والفيلسوف الكاميروني آشيل مبيمبي أنّ الوحشية التي يمارسها «الإنسان» ضدّ الإنسانية وأبعد، تؤدّي إلى فقدان الذاكرة والهوية الإنسانية. ولألّا نُبحِر في بحوثه ودراساته العميقة في موضوع وجودي بهذا الحجم، يبقى الإبحار في مضمون وخلاصة كتابه «الوحشية: فقدان الهوية الإنسانية»، واجب إنساني... بل أخلاقي لكل مَن قرأه.

 

في عالمٍ يتباهى بالتقدُّم، بينما تتآكل فيه الكرامة الإنسانية بصمت، يأتي هذا الكتاب ليطرح سؤالاً مركزياً صادماً: هل ما نعيشه حداثة متقدّمة، أم شكل جديد من التدمير المُنظَّم للإنسان؟

 

لا يتحدّث مبيمبي عن العنف بوصفه حدثاً استثنائياً، بل يكشف كيف تحوَّل إلى نظام حُكم، وكيف أصبحت الأرض، والجسد، والهوية، والحدود موادَّ قابلة للهندسة والإستغلال والإحتجاز. في هذا الكتاب، تنكشف العولمة والنيوليبرالية والتقنية الحديثة، كقوى تُعيد تشكيل الإنسان، لا باعتباره ذاتاً أخلاقية، بل كرقم، عبء، أو فائض يمكن التخلُّص منه.

 

بلغة فلسفية جريئة، ومن منظور ما بعد كولونيالي، يقودنا المؤلِّف في رحلة فكرية لفهم كيف ضاعت الإنسانية داخل أقفاص المراقبة، الديون، الخوف، والهويات المغلقة، وكيف أصبح العالم أكثر قسوَة على رغم من ادّعائه العقلانية والتقدُّم. هذا الكتاب ليس قراءة عادية، بل صدام فكري مع واقعنا المعاصر، ودعوة لإعادة التفكير في معنى أن نكون بشراً، قبل أن تتحوّل الوحشية إلى قدرٍ لا فكاك منه.

 

ويطرح مبيمبي مفهوم «الوحشية» (Brutalisme) بوصفه منطقاً جديداً للحداثة المتأخِّرة، إذ تتحوّل السلطة الرأسمالية-التقنية-الأمنية إلى قوّة مادّية تدميرية تُعيد تشكيل الإنسان، الأرض، الزمان، والجسد، لا بوصفهم ذواتاً أخلاقية، بل كمواد خام قابلة للاستغلال، التشذيب، والإحتجاز. الوحشية هنا ليست عنفاً عرَضياً، بل نظام شامل لإدارة الحياة والموت، يؤدّي إلى تفكُّك الهوية الإنسانية وانهيار المعنى الكوني للإنسان.

 

يفتتح آشيل مبيمبي الكتاب بتشخيص عالم يحترق: بيئياً، أخلاقياً، وسياسياً. العولمة النيوليبرالية لا توحّد البشر، بل تُنتج سلسلة من الهيمنات والابتزازات، فتتحوّل الأرض إلى مَورد مستنزَف، والإنسان إلى وظيفة اقتصادية أو عبء فائض.

 

يُركِّز هذا المحور على كسر الأرض والجسد والحدود، وعلى تفكيك وحدة الجسد والأرض: الجسد يُحتجز ويُشذّب ويُدار أمنياً. الحدود تُعاد هندستها عبر الجدران، المعسكرات، ومراكز الاحتجاز. النتيجة: إنسان مكسور، منفي داخل عالمه.

 

يناقش مبيمبي الروحانية المظلمة وضدّ الهوية، وتحوّل الروحانية الحديثة إلى أشكال باطنية مظلمة، إذ تُستبدَل المعاني الأخلاقية بالهوس، والقلق، وبؤس الزمن. ويرفض الكاتب الهويات المغلَقة، ويرى أنّها أصبحت أدوات عنف واستبعاد لا خلاصاً وجودياً.

 

ويُحلِّل الفحولة، الذُعر التناسلي، وأزمة الذكورة الحديثة: الفحولة تتحوّل إلى عنف رمزي وجسدي. الجسد الجنسي يُختزَل إلى استهلاك، قذف، ورغبة بلا علاقة، ما ينتج مجتمعات مأزومة حسياً وأخلاقياً. وينتقد مبيمبي أجساد-حدود والمالتوسية الجديدة، أي السياسات السكانية الجديدة التي ترى البشر كأرقام: فائضون، زائدون عن الحاجة، وقابلون للإقصاء، وهو ما يُسمِّيه رياضيات السكان المرتبطة بالعنصرية البيولوجية الجديدة.

 

يصف الكاتب الإنسانية في قفص، عالماً من التطويق والإنكماش: الإنسانية تُحبَس داخل أنظمة مراقبة، ديون، توطين قسري، وإدارة تقنية للحياة، حيث يفقد الإنسان قدرته على الحركة الحرة والمعنى الكوني.

 

يناقش الكاتب الفيلسوف مبيمبي إمكانية الخلاص: هل يمكن تصوُّر إنسانية محتملة تتجاوز الوثنية الجديدة (عبادة المال، التقنية، الدولة)؟ يقترح سياسة جديدة للكائن الحي، قائمة على الاختلاف، الانفتاح، والقدرة على قول الحقيقة في عالم مدمَّر.

 

اطروحة آشلي مبيمبي من أهم نصوص الفلسفة ما بعد الكولونيالية المعاصرة في عمقه التحليلي وربطه بين الاستعمار، الرأسمالية، والسلطة الحيوية، إذ يُظهر أنّ أزمة العالم ليست اقتصادية أو سياسية فقط، بل أنطولوجية: أزمة في معنى أن نكون بشراً.

 

الوحشية هي الوجه الخفي للحداثة حين تفقد بُعدها الإنساني، ويصبح الإنسان مشروعاً قابلاً للإلغاء. «الوحشية: فقدان الهوية الإنسانية» كتاب فلسفي عميق يُقدّم تشريحاً قاسياً لعالمنا المعاصر، إذ تُدار الحياة بمنطق التدمير، ويُختزل الإنسان إلى مادة. إنّه دعوة فكرية ملحّة لإعادة التفكير في معنى الإنسانية، قبل أن يتحوّل العالم إلى فضاء بلا بشر، بل فقط بلاستيك، بيانات، وأجساد فائضة.

 

رأى ديفيد هيوم، أحد أكثر العقول جرأة في نقد ما كان يُعدّ من المسلّمات، أنّ ما نسمّيه «علاقة سببية» ليس أكثر من عادة ذهنية نشأت من تكرار اقتران الأحداث، وأنّ العقل لا يملك أي برهان حاسم على وجود ضرورة تربط بين السبب والنتيجة. هذا الشك كان زلزالاً معرفياً أطاح بالثقة التي تأسست عليها الفلسفة الحديثة منذ ديكارت. بدا وكأنّ العالم الخارجي نفسه يُصبح موضع شكّ، وأنّ العلم قد يفقد أساسه الصلب إذا كانت قوانينه لا تقوم على ضرورة بل على عادة. انتشرت آثار صدمة هيوم في عصره، وأصبح الفلاسفة أمام سؤال مرعب: هل يمكن للعقل أن يمنحنا يقيناً حقيقياً، أم أنّ معرفتنا كلّها مبنية على الظنون فقط؟

 

اعترف إيمانويل كانط بعمق شكّ هيوم، لكنّه لم يقِف عند الهدم، بل اتّجه نحو إعادة بناء المعرفة من جذورها. رأى أنّ الخطأ ليس في العقل، بل في فهم وظيفته. فبدل أن يكون العقل تابِعاً للتجربة، جعله كانط هو الشرط الذي يجعل التجربة ممكنة أصلاً. العقل (عند كانط) يملك بنى قَبَلية ثابتة (السببية، الزمان، المكان)، وهي ليست مستمَدّة من التجربة، بل تُنظِّم التجربة وتُضفي عليها المعنى. وبذلك أعاد كانط للسببية مكانتها، لا كحقيقة خارجية مكتشفة، بل كقانون يفرضه العقل على العالم الذي يُدرِكه. بهذه الخطوة الجريئة، أعاد كانط الثقة بالعقل، لكن ثقة ناضجة تَعي حدود العقل بقدر ما تدرك قدرته، عبر تأسيس يَقين جديد يقوم على التوازن بين التفكير العقلي والتجربة الحسية.

الأكثر قراءة