لا يتوقف الموفد الأميركي توم برّاك عن إسداء النصح للبنان واللبنانيِّين للخروج من أزمتهم، يطالعنا بتصريحات وآراء أقلّ ما يُقال فيها إنّها مشوّشة ومتناقضة، ولعلّ أخطر ما فيها دعوته إلى العبث بـ"سايكس - بيكو" واعتباره لبنان وسوريا بلداً واحداً، متجاوزاً وقائع التاريخ وإرادة اللبنانيِّين في كيان واضح مُعبَّر عنه بعنوان عريض: "دولة لبنان الكبير" التي أبصرت النور في الأول من أيلول 1920، أي أنّ عمر الدولة اللبنانية تجاوز المئة عام، وهو كان الدولة العربية الأولى التي حملت مواصفات الدولة في البقعة الجغرافية الممتدّة من فلسطين إلى العراق.
وبالتالي، فإنّ الدولة اللبنانية، وبمعزل عن الجدل التاريخي الذي قام في حينه حول إلحاق الأقضية الأربعة بالدولة الوليدة وتوسيع حدود المتصرّفية التي نشأت عقب مذابح العام 1860، إلى الحدود الحالية للبنان - وهو لا يزال قائماً من حين إلى آخر - فإنّ ما من أحد في لبنان يرغب في استعادة سردية: شعب واحد في دولتَين، ولا شعار: لبنان وسوريا بلد واحد ويربط بينهما مصير مشترك.
وإن كان التعاون السياسي والأمني والإقتصادي في الحدود المتعارف عليها بين الدول، هو أمر طبيعي، شرط أن يتمّ في إطار تنسيقي يحفظ لكل بلد سيادته واستقلاله، فلا بُدّ من توافر آلية جديدة لتطبيقه بعد إلغاء الحكومة اللبنانية "معاهدة الإخوّة والتنسيق" مع دمشق الموقّعة في 22 أيار 1991.
وفي انتظار أن تتوصّل بيروت ودمشق إلى حلول للملفات المشتركة التي تخصّ البلدَين، من ترسيم الحدود البرية والبحرية وهوية مزارع شبعا، وتطوير آليات تنسيق أمني إقتصادي تجاري وتنظيم الترانزيت، فإنّ ثمة قضية ملحّة ومستعجلة ينبغي بتّها، وهي قضية عودة النازحين السوريِّين الذين ادّعوا أنّهم غادروا بلدهم هرباً من بطش النظام السابق، وها قد سقط النظام، وقد احتفل هؤلاء بالذكرى السنوية الأولى لرحيل بشار الأسد وتهاوي منظومته، بطريقة أعادت صورة ما كان يشكو منه اللبنانيّون إلى الواجهة، عندما كان السوريّون العاملون في لبنان يحيون الاستحقاقات السورية من استفتاءات وذكرى الثورة التصحيحية، وحرب تشرين، بصخب وفوضى وبمظاهر نافرة - وإن كانت غير مسلّحة - تثير اشمئزاز اللبنانيِّين وغضبهم المكبوت، لوجود القوات السورية.
لكن ما حصل بالأمس من تظاهرات تخلّلها إطلاق نار ومفرقعات في مناطق عدة من لبنان، وهتافات حملت طابع التحدّي، وبلغت تخوم أحياء حساسة في بيروت وضاحيتها الجنوبية وطرابلس وحارة صيدا، بعث على الخشية من تدحرج الوضع نحو صدامات لبنانية - سورية تتخذ طابعاً مذهبياً، لولا تحرُّك الجيش اللبناني بسرعة وحزم، وتحلّي المواطنين بالصبر والتعقل. وهناك أسئلة مشروعة طرحها البعض ولا يملك أحد الإجابة عنها راهناً:
- هل هذه التظاهرات كانت عفوية أم منظمة؟
- هل يمكن أن تكون هذه التظاهرات عفوية وغير منظّمة إذا كانت وجهتها مناطق معيّنة؟
- إذا لم تكن هذه التظاهرات عفوية، فمَن الذي يقف وراءها في الداخل أو الخارج ولأي غاية؟
- هل كان المخطّط يقضي بأن تكون هذه التظاهرات جسّ نبض لما يمكن أن يصدر عن فئة لبنانية من ردّ فعل، إذا ما كانت الورقة السورية ستُستخدم ضدّها في الداخل إنفاذاً لـ"أجندة" خارجية؟
على أنّ السؤال الكبير: لماذا التباطؤ في حسم ملف النزوح السوري؟ ألم يسقط نظام الأسد الذي كان يتذرّع به النازحون لتمديد إقامتهم في لبنان؟ أليس في سوريا مناطق آمنة يستطيعون العودة إليها تحت حماية سلطة الرئيس أحمد الشرع التي هلّلوا لها بتجمّعات وتظاهرات حاشدة؟ وبعد إقرار حزمة من المساعدات الدولية والعربية، هل ثمة حاجة للسوريِّين النازحين للبنان وبلدان أخرى، للبقاء حيث هم، أم العودة وتوظيف مهاراتهم المهنية لإعمار بلدهم؟
على أنّ ما يزيد الأمر خطورة هو الصمت الذي واجه تحرُّكات السوريِّين واعتبارها أمراً عادياً. فلو أنّ فئة من اللبنانيِّين، سواء انتمت إلى "معسكر السياديِّين" أو "معسكر الممانعة"، لجأت إلى أقل ممّا لجأ إليه النازحون للاحتفال بمناسبة تخصّها، لما نجت من الإنتقاد والمعايرة، ولكان الأمر مدرجاً لسجال ينقل البلاد إلى مدار السخونة القصوى.
في أي حال، كان الجيش اللبناني حاضراً، وجاهزاً، وصارماً في التصدّي للتفلّت الذي شهدته شوارع بيروت واوتوستراد خلده وصيدا وحارتها، وطرابلس، واستطاع احتواء التظاهرات ولجمها، والحيلولة دون تحوّلها كرة نار قادرة على إشعال الوضع. هذا المشهد يفرض أمراً واحداً: المزيد من الجدّية لمتابعة معالجة ملف النزوح السوري، والتنبُّه للمخاطر الأمنية التي ينطوي عليها في حال عدم الاتفاق السريع على حلّه بين لبنان وسوريا، وهي مخاطر قد لا تكون صنيعة اللبنانيِّين والسوريِّين، بل بعض الدوائر في الخارج، التي لا تزال تعمل ليظل لبنان ساحة لتبادل الرسائل وإجراء التجارب، للتأكّد من مطابقتها لمصالحها، قبل أن تعمد الى إسقاطها على واقع البلدان المعنية بالأزمة المستشرية التي يزيدها التعنّت الإسرائيلي تعقيداً.
توم برّاك الذي يرى تارةً في لبنان جزءاً من "سوريا الكبرى" أو أنّه وسوريا دولة واحدة، أو يوحي بتلزيمه لجارته الأقرب، فاته أنّ زمن الحنين إلى تلك المرحلة ولّى، ولم يَعُد هناك لبناني إلى أي طائفة أو حزب، يسعى أو يستبدّ به الحنين إلى اندماج وطنه في كيان أوسع، من دون أن يعني ذلك رفض التعاون والتنسيق مع الدول العربية القريبة والبعيدة على كل المستويات.
وفي انتظار اتضاح صورة ما يُخطَّط للبنان، فإنّ مراقبة الأرض وتطوّراتها باتت الشغل الشاغل للجيش اللبناني لضبط الأوضاع، وهي ستبقى مضبوطة، ولو بمشقة.