جنوب القوقاز: استراتيجية أميركية لإعادة صياغة أوراسيا
د. خالد العزّي
Saturday, 06-Dec-2025 06:56

يُعدّ اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان، الذي وُقّع بالأحرف الأولى في البيت الأبيض في وقت سابق من هذا العام، أكثر من مجرّد نهاية لحرب دامية استمرّت لعقود. إنّه يُشكّل بداية لحقبة جديدة من التعاون الإقليمي في منطقة جنوب القوقاز، التي لطالما كانت مسرحاً للصراعات المستمرة والتوترات السياسية.

ويفتح هذا الاتفاق آفاقاً واسعةً لتحويل العداء التاريخي بين الدولتَين إلى فرص مشتركة في مجالات البنية التحتية والتجارة والتكنولوجيا، ممّا يعكس إمكانية تحويل السلام على الورق إلى استقرار عملي إذا كانت هناك رؤية استراتيجية واضحة.

 

إنّ تحويل التوقيعات إلى استقرار حقيقي يتطلّب إشرافاً وتنفيذاً دقيقاً. وهذا يفتح أمام الولايات المتحدة دوراً محورياً في متابعة التطبيع السياسي وتحويله إلى إطار من التعاون المستدام. يمكن لواشنطن أن تلعب دوراً حاسماً في ضمان أنّ هذا التعاون لا يظل مجرّد اتفاقات ورقية، بل يتحوّل إلى واقع ملموس على الأرض، عبر تعزيز العلاقات بين الدولتَين وجعلها أكثر استدامة. ومن خلال ذلك، تستطيع الولايات المتحدة إعادة صياغة المشهد الجيوسياسي في المنطقة، مع تحقيق مصلحة مشتركة للدول المعنية.

 

دور الولايات المتحدة في تفعيل التعاون الإقليمي

 

على مدار 3 عقود، كان الصراع المجمّد بين أرمينيا وأذربيجان، الذي شهد تحوّلات كثيرة بما في ذلك تدخّلات من قوى خارجية مثل القوات الروسية، هو المُحدِّد الرئيسي للجغرافيا السياسية لجنوب القوقاز. لكن مع الاتفاق الأخير، أصبح لدى الولايات المتحدة فرصة فريدة، ليس فقط للوساطة في التوصّل إلى تسوية سلمية بين الدولتَين، بل أيضاً لإحداث تحول أعمق في البنية الجيوسياسية للمنطقة.

 

في الواقع، تستطيع واشنطن استخدام هذه اللحظة كفرصة استراتيجية لإعادة صياغة أوراسيا من خلال تفعيل سلاسل التجارة والاتصالات الإقليمية.

 

إنّ تحويل منطقة جنوب القوقاز إلى نموذج للسلام والاستقرار لا يمكن أن يتحقق فقط عبر الجهود السياسية التقليدية؛ بل يحتاج إلى عمل متكامل يشمل الاقتصاد والبنية التحتية، إذ تصبح هذه المجالات أدوات فعّالة لبناء الثقة بين الأطراف المختلفة.

 

فكما أثبتت تجارب مماثلة في مناطق أخرى من العالم، أنّ مشاريع البنية التحتية المشتركة مثل الطرق وسكك الحديد وخطوط الأنابيب، التي تعتمد عليها كل الأطراف، تصبح مكوّنات أساسية لاستدامة السلام. وعليه، يمكن أن تصبح هذه المشاريع بمثابة «جسور» تربط بين شعوب المنطقة وتُقلِّل من احتمالات العودة إلى الصراع.

 

تحويل ممر «طريق ترامب للسلام والازدهار الدوليَّين» إلى أداة للاستقرار

 

من أبرز المبادرات التي طرحتها الولايات المتحدة في هذا السياق هو «طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي، الذي يربط بين البرّ الرئيسي لأذربيجان وجيب ناختشيفان عبر جنوب أرمينيا. هذا المشروع يمثل حجر الزاوية في الاتفاق بين أرمينيا وأذربيجان، ويمكن أن يكون خطوة محورية نحو تعزيز التعاون الإقليمي.

 

إذا أُدير هذا الممر بشكل جيد، فإنّه سيكون بمثابة رابط حيَوي بين بحر قزوين وأوروبا، ممّا يوفّر فرصة لأرمينيا للوصول إلى أسواق جديدة في تركيا وأوروبا، وكذلك أسواق آسيا الوسطى في الشرق.

 

تعدّ هذه المبادرة فرصة لخلق تفاعل اقتصادي طويل الأمد بين أرمينيا وأذربيجان، وتحويل ما كان يمثل «حدوداً متنازعاً عليها» إلى شريان تجاري يعزّز من الاستقرار الإقليمي. ليتحقق ذلك، يجب أن تكون هناك لجنة مشتركة تضمّ ممثلين من أرمينيا وأذربيجان، تشرف على تنظيم حركة التجارة عبر هذا الممر، بما في ذلك الخدمات اللوجستية والجمارك والأمن. سيكون دعم الشركاء الأميركيِّين والأوروبيِّين أساسياً لضمان الشفافية وتعزيز ثقافة التعاون المستدام بين الأطراف.

 

الربط بين آسيا الوسطى وأوروبا عبر بحر قزوين: النموذج الجديد للسلام

 

من خلال دمج أرمينيا في الممرات التجارية عبر بحر قزوين، يمكن تحسين سعة الشحن للممر الأوسط الذي يربط آسيا الوسطى بأوروبا عبر جورجيا.

 

ويُشكّل هذا التكامل فرصة لتحرير آسيا الوسطى من الاعتماد على روسيا والصين، ويوفّر خياراً آخر لمصدّري المعادن والطاقة من هذه المنطقة بعيداً من الطرق التقليدية التي تسيطر عليها القوى الكبرى. ومن خلال تعزيز التعاون الاقتصادي بين أرمينيا وأذربيجان، تصبح هذه الدول جزءاً من شبكة اقتصادية أكثر توازناً وتعاوناً، الأمر الذي يسهم في استقرار المنطقة.

 

تأثير ربط الطاقة في تعزيز السلام

من الأبعاد المهمّة التي يمكن أن تعزّز السلام في هذه المنطقة هو ربط مشروعات الطاقة، مثل خط أنابيب النفط باكو-تبليسي-جيهان وممر الغاز الجنوبي، بمشاريع النقل المشتركة. هذه المشاريع توفّر إطاراً آخر للتعاون الإقليمي، إذ يُسهم كل مشروع في تعزيز الاعتماد المتبادل بين الأطراف ويجعل من الصعب تقويض الاتفاقات القائمة. بالإضافة إلى ذلك، تساهم هذه المشاريع في توفير استثمارات إضافية تدعم الاستقرار الاقتصادي وتدعم التنسيق بين الدول المعنية.

 

إعادة صياغة أوراسيا من خلال استراتيجية أميركية جديدة

 

إنّ الاستراتيجية الأميركية في جنوب القوقاز ليست مجرّد فرصة لتحقيق السلام بين أرمينيا وأذربيجان فحسب، بل هي أيضاً فرصة لإعادة صياغة أوراسيا بالكامل.

 

من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي، والربط بين الطاقة والتجارة، وفتح مسارات جديدة للاستثمار المشترك، يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دوراً محورياً في تحويل هذه المنطقة إلى نموذج للسلام والازدهار.

 

في النهاية، يعكس هذا التعاون الجديد تحوّلاً كبيراً في موازين القوى في المنطقة، إذ يصبح التنافس الاقتصادي والتجاري أداةً أساسية للصراع مع القوى التقليدية، مثل روسيا والصين، ويخلق في الوقت عينه بيئة أكثر استقراراً للسلام بين دول القوقاز والعالم.

الأكثر قراءة