المجتمع غير المتوازن: قراءة سوسيولوجية
د. عباس حمزة حمادي
أستاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية
Saturday, 29-Nov-2025 06:57

لا جدال في أنّ الظاهرة الاجتماعية، باعتبارها خارجية وطارئة على الذات الفردية، لها صفة القهر الاجتماعي بامتياز؛ حيناً بصفة شعورية وأحياناً كثيرة بصفة لا شعورية. وفي ذلك ما يُشير إلى مفهوم العقل الجمعي، الذي يمارس نوعاً من السلطة الجبرية على الأفراد، حينما يتواجدون في جماعة دينامية تتصف بفعالية مستمرة.

من هنا، نقول إنّ الظواهر المجتمعية غالباً ما تنشأ بسبب الأفعال وردود الأفعال القائمة، فتأخذ شكل الظواهر السليمة التي تخضع إلى شروط اجتماعية إيجابية. كما يمكن لها ببساطة شديدة ويُسر أن تتمظهر بشكل آخر، وهو شكل الظواهر المعتلَّة والخاضعة بدورها إلى شروط اجتماعية مرهونة وأسيرة بالمطلق لعادات مَرضية، لا يرضى عنها المجتمع ولا يطمئنّ لها بحال من الأحوال.
وإذا كان هذا كذلك، يصبح لزاماً علينا تقسيم المجتمعات البشرية وفق قواعد مورفولوجية مؤلمة وحادة في آنٍ؛ إذ لا فكاك منها ولا خلاص أو مهرب! هذا، إذا ما اعتبرنا سلوك الإنسان عبر تشكيلاته المتنوّعة في حالته الخاصة، مختلفاً اختلافاً جوهرياً عنه في حالته الاجتماعية العامة.
ولهذا نجد التفاعلات الاجتماعية بين البشر، تُعبِّر عن نفسها من خلال نماذج متبدّلة، لا تستقر على نمط واحد! سواءً حدث ذلك بشكل أفقي أو عامودي أو تبدَّى لنا بمعية علاقات خاصة أو عامة؛ مباشرة أو غير مباشرة، شخصية، ذاتية، موضوعية.... وهذا يعني أنّ هناك نصيباً وافراً من العلاقات، التي تندرج في إطار تفاعل اجتماعي بين فردَين أو أكثر، لكنّها ليست خاضعة بالضرورة - بأي شكل من الأشكال - إلى سلطة المجتمع العليا؛ فهذه علاقات ممكنة، متاحة أو ظرفية. أمّا إذا ارتبطت تلك العلاقات بطريقة ما، بأهداف خصَّها المجتمع بشيء من الاهتمام والرعاية والحماية؛ فنحن بالتالي أمام نوع آخر منها، فرضته في الأعم الأغلب، مبادئ الاجتماع العام.
إذاً، سنقع على التفاوت الواضح بين الشرائح الاجتماعية على اختلافها وتمايزها، في درجة الالتزام بالمبدأ العام أو النموذج العام للفعل الاجتماعي، إذ من المتوقع أن يحيد عنه (المبدأ أو النموذج العام) البعض قليلاً أو كثيراً، ويلتزم به البعض الآخر بالمقابل، قليلاً أو كثيراً أيضاً. وكل ذلك بغضّ النظر عن النطاق الاجتماعي الذي يتحرّك فيه الأفراد وبعيداً من المكانة أو الدور الاجتماعي لكل منهم؛ إذ إنّ مقدار التفاضل/التمايز يعود إلى الأوضاع المنفصلة للضوابط الاجتماعية، كأنماط أو أنشطة مختلفة الأهداف والغايات، ما يجعل فكرة كشف أسرارها ومحرّكاتها الداخلية معضلة يصعب حلّها حتى على الفهيم الفطن.
وعليه، فإنّ هذه الضوابط أو النظم الاجتماعية النمطية والتقليدية الحادة، التي تنطوي في بيئتنا المحلية على أكثر أشكال التفكّك والانهيار قتامة وقُبحاً، تقودنا على الأرجح نحو ترسيخ مفاهيم التباين والتَّشاوُف ورفعة الانتماء والنسب، في مجالات الحياة اليومية والواقعية كافة! وتعمل بالتوازي على إيجاد تكوينات اجتماعية تناقض بعناصرها مبدأ الإحساس بالهوية الجمعية، المرتكزة على مسلّمات القِيَم والوعي والسلوك والتقبّل الاجتماعي، لتحلّ محلها هويات فردية مصلحية، مبعثرة في كل ناحية واتجاه! لكن على حساب الجماعة وروابطها الطبيعية والعقلانية.
وهذا ما أوجد نوعاً من الاستقلال الذاتي للفرد، من خلال انفصاله الطوعي عن المجال التنظيمي العام. وهكذا - وبشكل متدحرج - تشتد حدّة الصراع القائم على التنازع المبالَغ في وضوحه وكثافته! فتصبح الحاجة مُلحّة لدى الأطراف المتنازعة، لاستحضار الآليات الدفاعية التبريرية والاستعانة بالإسقاط الفرويدي، لفائدة خَلْع أَمارات الحقد والإلغاء من عقولهم وزرعها في عقول الآخرين؛ بدلاً من الاعتراف بحقيقة العجز والتفسخ على المستوى الفردي.
إذاً، نلحظ أنّ نقطة انطلاق الفرد في حكمه على القيمة الاجتماعية - المقبولة وغير المقبولة - ترتكز بالدرجة الأولى على معتقد ثابت، بلوَرت جزئياته الأساسية العصبية الدينية والعادات المحمولة وراثياً في مجاري الدم والعروق. وهذا هو دَأْبُنا على الدوام، أن نُخرج ألفاظنا أسوأ إخراج، بسبب استعجالنا الكشف عن الأفكار والمعاني التي نحمل، قبل العناية بتشكيل صورها وترتيب حروفها وإدراجها في خانة احترام خصوصية مَن يختلف عنا. وعلى رغم من أنّنا نعيش في مجتمع واحد، فإنّنا ننظر إلى الخارج عدوّاً وصديقاً في آنٍ، وإلى الداخل كمجموعة عبثية من الأفراد؛ فَنَأْذَن لهذا بدخول جنة الفردوس ونسوق ذاك إلى جحيم النار والعذاب المقيم؛ استكمالاً لذهنية التمييز المشتهاة على كل صعيد.
وهكذا، نُصبح ونُمسي ونحن نتطلَّع إلى مَن حولنا، وفق مقياس عامودي الدرجات، يبدأ من الكائن الاجتماعي البائس المهمش وينتهي بالكائن الأسطوري الممتاز، الذي هو أنا وأنا بالتحديد! مضافاً إليَّ وملحقاً بي، مَن رضيت عنه؛ فقال قولي وفعل فعلي بالتمام والضبط. وبَعْدُ، تتوضّح الصورة بجلاء، فيبدأ الصراع الاجتماعي كمشروع أخير - بلا وعي وتبصّر وإرادة حكيمة – تمدّه (الصراع) العبثية والعدوانية بأشكال مختلفة من الماء والغذاء، حتى يطال الأفعال الاجتماعية جملة، وما يترتب عليها.
وحسبنا ههنا، عالَم الطبيعة الذي تعمل فيه - دونما توقف أو إبطاء - قوى جذب وطرد في اللحظة نفسها، من غير أن تطغى إحداها على الأخرى أو تعبث بعناصرها وأساس وجودها.

الأكثر قراءة