كيف تسهم الأسلحة الجديدة في تقليص التصعيد العسكري؟
د. خالد العزّي
Wednesday, 19-Nov-2025 07:20

في عالم السياسة والعسكرية، تُعتبَر التكنولوجيا الحديثة أكثر من مجرّد أداة لتحقيق التفوّق العسكري؛ فهي أيضاً أداة للردع. في هذا السياق، تأتي التجارب الروسية على أسلحة «بوريفيستنيك» و»بوسيدون» لتكون أكثر من مجرّد اختبارات تقليدية؛ بل هي بمثابة رسالة شديدة اللهجة لخصوم روسيا، تعكس تحوّلاً كبيراً في ميزان القوى العالمي وقدرة موسكو على الردّ على أي تصعيد عسكري.

الاختبارات الروسية: لا مجال للألعاب

في تعليق له على تجارب صاروخ «بوريفيستنيك»، أكّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب: «هم لا يلعبون، ونحن لا نلعب». هذه العبارة تختصر بشكل مثالي الرسالة التي أرادت روسيا إرسالها عبر هذه الاختبارات. لا يتعلّق الأمر فقط بتطوير أسلحة جديدة، بل هو أيضاً تحذير للمجتمع الدولي، خصوصاً للغرب، حول العواقب المحتملة لأي تصعيد.

 

أثار الصاروخ، الذي أُعلِن عنه لأول مرّة في عام 2018، جدلاً واسعاً، لدرجة أنّ وسائل الإعلام الغربية وصفته بـ»الرسوم المتحرّكة» في البداية. لكن بعد التجارب الأخيرة، بدأ الغرب في تعديل موقفه، إذ بدأ بعض الإعلاميِّين والخبراء يعترفون بأنّه ليس مجرّد سلاح تقني عتيق، بل يحمل في طياته قوّة استراتيجية جديدة.

 

المسار الغربي: الحيرة والتشكيك

 

بعد التجربة الأخيرة لصاروخ «بوريفيستنيك»، بدأت وسائل الإعلام الغربية بنشر آراء الخبراء التي سعت إلى تقليل تأثيره على الرأي العام. البعض اعتبر الصاروخ «سلاحاً سياسياً» يعتمد على تقنيات قديمة تعود إلى خمسينات القرن الماضي. لكنّ هذه التحليلات، التي كانت محل شك حتى بين الجمهور الغربي، بدأت تُظهِر تراجعاً عندما تبيّن أنّ الادّعاءات حول «بوريفيستنيك» تفتقر إلى الأسس العلمية الكافية.

 

أحد أبرز الادّعاءات التي دُحِضَت كانت فكرة أنّ «بوريفيستنيك» سيترك «أثراً إشعاعياً» يكشف موقعه، إذ أكّدت الهيئة النرويجية للحماية من الإشعاع أنّ مستويات الإشعاع لم ترتفع بعد اختبار الصاروخ في 21 تشرين الأول 2021.

 

الضربة الكبرى: «بوسيدون» والنظام النووي الجديد

 

إلى جانب بوريفيستنيك، أُعلِن عن اختبار «بوسيدون»، الطائرة المسيّرة تحت الماء المزوّدة بنظام دفع نووي ورأس حربي حراري. هذا السلاح لا يُعدّ مجرّد خطوة متقدّمة في تقنيات الحرب تحت الماء، بل يُعدّ تجسيداً لابتكار عسكري قادر على تغيير مجرى أي نزاع عسكري في المستقبل.

 

جاء تصريح بوتين حول «بوسيدون» في توقيت مثير، إذ كان نظيره الأميركي، ترامب، قد صرّح قبيل ذلك بيوم عن قوّة وحصانة البحرية الأميركية، ليُفاجأ العالم بتجربة «بوسيدون» التي نسفت تلك المزاعم. لكنّ هذه الأسلحة لم تكن مجرّد ردّ على تصريحات ترامب، بل كانت تمثل ثورة في الفكر العسكري الروسي. «بوريفيستنيك» و»بوسيدون» لا يقتصران على تحسينات تكنولوجية فحسب، بل يعتمدان على حلول ومبادئ جديدة تماماً تختلف عن الأنظمة التقليدية المستخدمة في الصواريخ والطائرات المسيّرة تحت الماء.

 

الردع النووي: هل نحن أمام «يَد ميّتة» جديدة؟

أحد أبعاد الردع الروسي كان في مشروع المحيط (أو «اليَد الميتة»)، وهو النظام الذي يضمَن الردّ التلقائي في حالة تعرّض روسيا إلى ضربة نووية تُدمّر مراكز القيادة والسيطرة. يُعرَف هذا النظام في الغرب باسم «اليَد الميّتة»، وهو بمثابة تهديد استراتيجي في وجه أي خطة غربية تهدف إلى تعطيل قدرة روسيا على الردّ في حالة الحرب النووية.

 

في المقابل، وفي واشنطن، طُرِحت فكرة مفادها أنّ نظاماً للدفاع الصاروخي العالمي قد يكون قادراً على التصدّي لصواريخ «اليَد الميّتة». بحسب هذه الفكرة، حتى إذا فشل النظام في اعتراض جميع الصواريخ المُطلقة، فإنّ الضرر الناتج من الهجوم الانتقامي الروسي سيظل محدوداً إلى مستويات «مقبولة».

 

أسلحة رادعة في زمن الأوهام النووية

من خلال هذه الأسلحة الجديدة، أرسلت روسيا رسالة مفادها أنّ الأسلحة الحديثة ليست مجرّد أدوات هجومية، بل هي أسلحة ردع ذات قدرة على التأثير الكبير في السياسة العالمية.

 

«بوريفيستنيك»، بمداه غير المحدود، يمكنه دخول المجال الجوي الأميركي من أي اتجاه غير مغطّى، ممّا يجعله صعب الاكتشاف. وعند التحليق على ارتفاعات منخفضة، يُصبح من المستحيل تقريباً تتبّعه باستخدام الرادارات العادية. هذه القدرة على المناورة تجعله تهديداً صعباً للغاية للأنظمة الدفاعية المضادة للطائرات.

 

أمّا «بوسيدون»، فيمكنه السفر بسرعة مذهلة تحت الماء وبعمق يصل إلى كيلومتر واحد، وهو ما يُعزّز من قدرته على الهجوم من دون أن تكون هناك إمكانية للردّ عليه. قدرة «بوسيدون» على الاستمرار في موقع قتالي لفترة غير محدودة تمنحه ميزة كبيرة على الأسلحة التقليدية.

 

الأسلحة الجديدة ورسالة استراتيجية في زمن التوترات

 

في النهاية، ليست تجارب «بوريفيستنيك» و»بوسيدون» مجرّد اختبارات تقنية، بل هي رسائل سياسية واستراتيجية تهدف إلى تغيير قواعد اللعبة في الحروب النووية. مع هذه الأسلحة، تؤكّد روسيا على أنّها مستعدّة تماماً للردّ على أي تصعيد نووي، وأنّ لديها القدرة على اختراق أي دفاعات موجودة حالياً. الأسلحة الجديدة لا تجعل من روسيا قوّة عسكرية جبارة فحسب، بل تمثل أيضاً رادعاً يمنع أي طرف من التفكير في تحقيق انتصار في حرب نووية.

 

وترى روسيا أنّها بصنعها لهذه الفئة من الأسلحة قادرة على مواجهة العالم بل وتحقيق نصرٍ عليه، وكان العالم اليوم لا يملك سلاحاً قوياً يقهرها أو يجرّها إلى مستنقعٍ من الرمال المتحرّكة؛ فالغرب ليس أوكرانيا، وأوكرانيا بالنسبة إلى روسيا عقدة جديدة دخلت عامها الرابع، ولا تزال عمليّتها الخاصة لم تُنجَز بعد. ومع ذلك، تبقى الأسئلة حول كيفية تعامل المجتمع الدولي مع هذه التطورات مفتوحة، خصوصاً مع استمرار التوترات وتصاعد نوازع التسلح.

 

وعلى رغم من أنّ العالم قد بدأ في الاعتراف بقدرات هذه الأسلحة، فإنّ أهمّيتها تتجاوز مجرّد التكنولوجيا العسكرية المتطوّرة. «بوريفيستنيك» و»بوسيدون» هما دليل على أنّ العالم لا يزال يقف عند مفترق طرق في ما يتعلّق بسياسات الردع النووي. ومع ذلك، تبقى الأسئلة حول كيفية التعامل مع هذه الأسلحة في المستقبل مفتوحة، خصوصاً مع استمرار التوترات الدولية في التصاعد.

الأكثر قراءة