ثلاثية المطر: حين يُشبِهكَ الغياب
آية يوسف المسلماني
Monday, 17-Nov-2025 07:34

في هذه الثلاثية، نغوص في عالم من المطر والظلال واللمس الذي لم يحدث... حيث الحُبّ يتجاوز اللقاء، والحنين يصبح حضوراً، والغياب يشتعل داخل الروح. هي رحلة قصيرة بين الواقع والخيال، بين اللحظة والذكرى، بين ما كان وما لم يحدث بعد...

(الجزء الأول) حين يشبهك المطر

 

المساء ينحدر بخفة، يختبر صبري على الغياب.

المدينة تتلألأ تحت زخّات المطر، والضوء يتكسّر على الأرصفة كخيالٍ يستعيد نفسه في صمت.

لم أبحث عنك، لكنّ المطر يعرفُ الطريق إلى الحكايات المخفِيّة بين قلبي وروحي.

رأيتك عند الزاوية، أو خيالي صنعك هناك.

توقفت...

الهواء مُشبَع بالدهشة، وكأنّ كل خطوة تحاول أن تلمس ما لم يكتمل.

شيء ما ارتجف داخلي، كنبضٍ صغير يسبق النظر،

وشعرتُ أنّ المسافة بيننا اهتزّت على غير مرأى.

المطر يزداد كثافة، يغمر الشوارع، ويكسو الأرصفة بمرآةٍ تتوهّج.

كل شيء حولنا صمَت، ليترك مساحة للحظة قصيرة، غامضة، مليئة بالدهشة.

هواءٌ باردٌ يمر بيننا كحكاية لم تُروَ بعد،

وتركت خلفه أثراً خفيفاً من دفءٍ لم يحدث، لكنّه ما زال هنا.

حين عُدتُ، بقي شيء بين أصابعي،

رائحة لم تُنسَ، ورعشة من أول الحكايات،

كأنّ شيئاً منك مرّ ولم يرحل.

 

ومنذ تلك الليلة، كلّما هطل المطر،

أبحث عنك في الشوارع والمرايا،

كأنّ المطر يُعيد سرد اللقاء،

لأعيش تفاصيله مرّة أخرى،

حتى تلك التي لم تحدُث بعد.

 

(الجزء الثاني) ظلّ لا يختفي

 

منذ تلك اللحظة، ظلّك يزورني بلا استئذان،

لا حين أنادي، بل حين يختار أن يظهر وحده.

أسمعه في همسات الهواء،

في حفيف الستائر،

 

وفي دفءٍ يمرّ خفيفاً، يذكّر بما كان يمكن أن يكون بيننا.

أحياناً يتلوّى على الحائط، كابتسامةٍ نُسيت،

يقترب ثم يبتعد،

ويترك أثر اقترابٍ لم يحدث لكنّه ارتجف على حافة شعوري.

الموسيقى تعود خافتة، كأنّها تعرف أنّنا التقينا مرّة أخرى.

كل نغمة تُعيد رسم ملامحك بين الضوء والظل،

 

وتتركني أتساءل:

هل أنت هنا حقاً،

أم أنّ الحنين أصبح أكثر مهارة في التنكّر؟

قطرات الماء على الزجاج تصنع سيمفونية خفية،

ورائحة الشاي تداعب أصابعي،

والهواء يحمل شيئاً منك لا يُرى،

لكنّ حضوره يملأ المكان.

الغياب حين يشبهك يصبح حضوراً مؤلماً، ممتداً، لا يُحتمل.

 

(الجزء الثالث) حين يوقظ الغياب النار

 

الليل ينساب ببطء،

والشوق يتسلل، كضوء يمرّ بين قطرتي مطر.

أراك تمشي بين أنفاسي،

تقترب من دون أن تلمس،

 

تترك أثراً على الروح،

ارتجافاً لم أعرفه إلّا حين شعرتُ به،

كأنّك الاقتراب الذي لم يحدث لكنّه ترك بصمتَه

وأصبح جزءاً مني.

هل يمكن للغياب أن يُشعل ناراً لم تُطفأ؟

أم أنّ ما أحسّه هو ما بقي منك،

شيء يرفض الرحيل على رغم من كل شيء؟

ذاكرتي ممتلئة بارتجافات مختبئة،

وجسدي أرشيفٌ للمساتٍ مؤجّلة،

لكلمات لم تُقال،

ولدفء لم يكتمل، لكنّه لم يغادر.

أفتح كفيّ، فلا أجدك،

لكنّ الضوء ما زال هناك،

يختبئ بين أطراف أصابعي،

كأنّك مرَرتَ للتو،

وتركتَ وعداً صغيراً بالعودة...

ربّما في حلم،

أو في مطر جديد يشبهك.

ولم أعرف بعد،

هل كان ما حدث حقيقة، أم أنّ قلبي هو الذي صنع المطر..

لكي يراك؟

ثلاثية المطر هي حكاية عن الحب والحنين،

عن اللقاءات التي قد تكون وهماً،

عن الغياب الذي يشعل الذاكرة،

وعن الشوق الذي يترك أثره في كل لحظة، حتى في أصغر قطرة مطر.

الأكثر قراءة