مؤسسةٌ في صنم!
أنطوان نصر
Thursday, 13-Nov-2025 07:02

في صحراء سيناء وفي خضم التشتُّت والخَوف والضياع، وفي غياب القائد، ابتكر الشعب لنفسه صنماً ضخماً وجسّده بعجلٍ من ذهب ليعبدوه وكان لهم ما كان. ابتعدوا عن الإله الواحد وراحوا يعبدون الصنم في مسيرتهم بدل الله! وأصبح هذا العجل ملجأهم وأورشليمهم، وكانوا مستعدّين ليس فقط لعبادته وحسب، بل وللموت في سبيله وقدرته وضخامته وقوّته!

من البديهي، أنّ أرض الميعاد لا تتكلّم وليس فيها نسمة حياة، بل الذي يتكلّم باسمها وينطق بأخبارها هم الرؤساء والسياسيّون الذين يمثّلون الأحبار بالنسبة إلى العجل الذهبي...

 

لذلك، عندما يطلبون من الشعب العبادة والعُشر والزكاة والتضحية لأرض الميعاد، ممثّلةً بالعجل الصنم، إنّما يطلبون ذلك لأجل أتباعهم وشعوبهم والتضحية من أجل أنفسهم ومن أجل استمرارية سلطتهم وتسلّطهم على البسطاء وعامة الشعب...

 

والطامة الكُبرى ومنذ ظهور المجتمعات الإنسانية والشعوب العابدة والساجدة للصنم، ما زالت فرحة ومصدِّقة ومؤمنة بقوّة الصنم غير المنظورة وبل المزعومة والافتراضية...

 

تضحّي الشعوب ويموتون في سبيل الأرض والوطن والصنم، ويفرحون أنّ سلاطينهم قد كرّموهم وأطلقوا على أمواتهم كَلِمَة: شهيد الأرض أو شهيد الوطن أو شهيد الصنم، والأرض والوطن والصنم هي ثالوث لحقيقة واحدة (المؤسّسة)، والأغرب في ذلك، أنّ المسؤولين والرؤساء، لا يموتون لأجل الصنم ولا في سبيل الوطن، ولا حتى يقبلون أن يضحّوا بأبنائهم في سبيل الأرض والصنم والوطن، لأنّهم نصّبوا وجعلوا من أنفسهم هم الوطن... والوطن لا يموت لأجل الوطن، بل يموتون في سبيلهم لأنّهم هم الوطن، ومن أجلهم يموت عابدو الصنم الوطن...

 

يتكلّمون ويتباهون ويفتخرون بغنى المؤسسة وممتلكاتها وأراضيها وسلطتها وسلاطينها ورئيسها، والجميع متأهّب ومستعدّ لبذل الذات والموت لتستمرّ المؤسّسة والطائفة والأرض...

 

والمفارقة المحزنة، أنّ لا أحد يتورّع أن يطرح السؤال: ماذا تمثّل هذه المؤسسة؟ ومن أين قدسية هذا الصنم؟ ولماذا يحق له الاستيلاء على إنسانية المؤمن، وأنّه يستحق الموت لأجله، وأن يُعبَد وأن يملك على الأجساد والأرواح بل وعلى النوايا والضمائر؟

 

مَن هي هذه المؤسسة الصنمية التي تطلب الصوم والتقشّف من أبنائها لينعم أسيادها؟ مَن هي هذه السلطة التي تُجوّع أتباعها لتُشبع أصحاب السيادة والسعادة؟ مَن هي هذه المتسلّطة التي تستعبد وتستغل شعوبها ليعيش خاديموها ومُكرّسوها؟ مَن هي هذه المتربّعة على عرش الأنا لإخضاع الآخر؟

 

وما ينطبق على المؤسسة الصنم، ينطبق على المؤسسة الكنسية البشرية، المرتكزة على حقيقةٍ واحدة: السلطة مركز القوّة. ولإقناع المؤمنين بكلّ هذه الحقائق المزيّفة تُخضِعهم إلى غسل الدماغ، وتقنعهم بالحكم الإلهي، ومن ثم بقوّة الترهيب باسم الله الذي يؤكّدون أنّهم يعملون لأجله، وهم في الحقيقة يفعلون كلّ ذلك لأنفسهم وأقاربهم وأسرهم، تحت ستار أنّهم يعملون لأجل المؤسّسة ومجد الله الأعظم.

 

يُخصُون أولادك ويسلبُون منهم نعمة الحبّ والإنجاب، معلّلين كلّ هذا لأجل الملكوت وحُباً بالذي لا يُرى، ويقودون حُرّيتك باسم الطاعة المقدّسة، مدّعين أنّهم ينفِّذون مشيئة العلي وهو منهم براء.

 

فلو أعلنوا صراحةً، أنّهم يخُصون ويسلبون ويحرمون المؤمنين لأجل ذواتهم وأنفسهم، لرفضهم الأقربون قبل الأبعدين! فكلّما أرادوا المزيد، زادوا في التعظيم والتبجيل والتبخير لهذه المؤسّسة، قائلين إنّها أمٌ ومعلّمةٌ ومقدّسة.

 

ففي كلّ التظاهرات مثلاً، نسمع شعارات عالية النبرة تقول: ليحيا الحاكم! وكلّنا خرطوش فردك يا سيد، دماؤنا ودماء أولادنا فلتُهدر فداك شرط أن تحيا المؤسسة!

 

الخلاصة تكون بأن يموت ويقهر المؤمن وتحيا المؤسسة، ومن ورائها الأسياد والكهّان! ومَن هي هذه المؤسّسة الكنسية، وهل المطلوب أن نموت لأجلها؟

 

فالمؤسسة الكنسية البشرية التي يموتون في الدفاع عنها؟ إنّها «مشاعات وأرزاق وممتلكات ومقدّرات... يتقاسمها الأسياد مع أعوانهم وكهنتهم ليكتسبوا ودّهم وولاءهم».

 

إذاً، بالنسبة إلى المسيح المتجسّد والمؤسِّس لكنيسته، الكنيسة والمؤسسة ليست هي المشاعات ولا الأوقاف ولا الممتلكات، الكنيسة الحقيقية هي الشعب المؤمن، والإيمان الحقيقي هو النابع من كلمة الإنجيل القائلة: بعرق جبينك تأكل خبزك، وبالحُبّ تأخذ مجاناً وتُعطي مجاناً ومن دون مقابل، وأن يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته، ويبني بيتاً على الصخر ويرى بنوه كفروع الزيتون حول مائدته...

الأكثر قراءة