الحقيقة الكنسية المُرّة
أنطوان نصر
Wednesday, 29-Oct-2025 07:02

إنّ الكنيسةَ مؤسّسةٌ ذاتُ وجهَين: الأول إلهيّ لا تشوبُه شائبةٌ؛ والآخر إنسانيٌّ يحمل في طياته صلاحاً، وفي الوقت عينه فساداً هو بشاعةٌ في الكنيسة تُشوّهُ صورتَها الحقيقيّة النقيّة، لا يتوانى البعضُ من رجالاتها عن الإمعانِ فيها.

لا يختلف اثنان على أنّ المؤسّسة الكنسية عريقةٌ ورائعةٌ؛ طبيعتُها إنسانية روحية، عطرُها نقيٌّ تُرفع له القبّعاتُ.

 

الكنيسةُ معلّمة، رسولية، مبشِّرة، وحافظة للإيمان القويم. وقد وَصَفها الآباءُ القدّيسون «بالملكوت الأرضي، والمشفى الروحي والسلّم إلى السماء».

 

الكنيسةُ صخرةٌ إيمانية لا تقوى عليها قَوى الجحيم، طقوسُها متنوّعةٌ وجذّابةٌ. أديارُها ورعاياها إلى مستشفياتها ومدارسها وجامعاتها، سفينةٌ حضارية، رُصِّعَ تاريخُها بأروعِ العلوم والثقافات. جسدُ المخلّصُ غذاؤها ودمُهُ مشربُها الحقيقيُّ لأبنائها.

 

غيرَ أنَّ ثمَّةَ اهتزازاتٍ تحدثُ في هذه الكنيسة، تَنجم عن تصرّفاتِ بعض رجالاتها، لا تمتُّ بصِلةٍ إلى رسالة مؤسّسها قد تدفع بالكثيرين من أبنائها إلى الابتعاد عنها، وتدفعنا إلى التساؤل حول أسبابها!

 

إنّ المشكلةَ العُظمى في الكنيسة تكمنُ في بعض هؤلاءِ الرجالاتِ والأمراءِ والملائكة الذين تضاعف عددُهم بعد العامِ 1975 المعروف بإندلاعِ حرب الآخرين على أرضنا، وما تبعهُ من انحلالٍ أخلاقي وتداعياتٍ وانقساماتٍ ونزاعاتٍ وخياناتٍ، وما لحِقُه خصوصاً من تسابق في سعيٍ أعمى إلى الحصولِ على أكبرِ قدرٍ من المردود المالي والسلطوي لم يقتصر على صعيد الوطن، بل تخطّاه إلى تناحرٍ في ما بينهم على الأولوية، بعضُهم أرادوا المارونية أوّلاً، وآخرون الأورثوذكسية، وغيرُهم الكاثوليكية أو السريانية أو المصلحين... بَدَلَ أن يكونوا مسيحيِّين أوّلاً.

 

وقد شاء البعضُ من الرؤساء أن يكونوا متسلّطين لمصالحَ خاصةٍ، لا لخدمةِ الهيكل والمؤمنين، متلبّسين الوداعةَ من غير أن يكونوا وُدعاءَ، فاغتنَوا بما غنِموا من مكاسبَ أفقروا بها البطريركية والأبرشية والرعيّة. فما كانوا حُرّاسَ هيكلٍ أُمَناءَ!

 

إنّ الكنيسةَ بوجهها الإنسانيّ معرَّضةٌ لاهتزازاتٍ خارجية، وهي قادرةٌ على تجاوزها، ومحصّنة ضدَّها، سواءَ أكانت هذه الاهتزازات عقائديةً أو مسلكيةً أو تعليميةً. لكنَّ الطامةَ الكبرى هي أنّ «حاميها حراميها»، و»التلم الأعوَج من الثور الكبير». هؤلاءِ تمسّكوا بالتاج والعكّاز، وبالمظاهر البرّاقة الكاذبة، بَدَلَ التعمّق بالروح والعيش بمشورات الإنجيل وتعاليمه. وهو الخطرُ الأدهى الذي ينبغي على الكنيسة أن تواجهَهُ في مسيرتها نحو الملكوت.

 

هذه الطغمةُ من أشباه المكرَّسين ترفضُ التخلّيَ عن مكتسباتها ومناصبها، مطمئنّةً إلى أنّ الكنيسةَ ملجأٌ لها، وأَنّها قلعةّ حصينة لا يستطيع اختراقَها رقيبٌ ولا حسيبٌ، ولا مرجعيةٌ عِلمانيةً كانت أم دينيةً، لطرح السؤالِ عليها: «من أين لك هذا؟!» وسواءَ أكان عمداً أم سهواً، فإنّ هذه الطغمةَ تأبى الحفاظ على وجهَ الكنيسة ناصعاً بهِيّاً لا تشوبُهُ شائبةٌ ولا تطالُهُ يدُ الأَثمةِ.

 

هذه الطبقة المتسلّطة على أبناء الكنيسة، المتحكّمة بالرقاب، لا تُؤمن بملكيةٍ كنيسيةٍ، بل بمُلكية شخصية خاصة. تتقدّم مصلحةُ الغالبية من بينهم على مصلحة المؤسّسة وقد باتت حساباتهم المصرفية تفوقُ حسابات الطائفة بأكملها. ينهبون المساعدات ويخفون الأمانات ويبتلعون الأرزاق ومال الأوقاف، بحجة أنّ مَن ترك أباً أو أماً أو امرأة... ينال أضعافاً، غافلين عن اسم السيّد المسيح، مخالفين بذلك كلَّ القِيم الإنجيلية، من غيرِ رادعٍ ولا وارعٍ ولا وخزِ ضمير!

 

هؤلاءِ يُريدون كتابةَ إنجيلٍ خاصٍ بهم، يَتماشى مع ميولهم ومصالحهم. يُحرّفون التعليم الصحيح، يُشرّعون تخطّي القوانين بحجّة عمل الروح القدس وهو براءٌ من تصرّفاتهم وانتخاباتهم المصلحيّة جميعها.

 

هؤلاءِ يُريدون التسويق لكنيسةٍ لبنانية، وآخرون لكنيسة سورية أو كلدانية أو سريانية، فيما الحاجةُ هي إلى واحدٍ فحسب!

 

قلّةٌ من المكرّسين اختارتْ لنفسها نصيباً يَصلُحُ لخلاصها وخلاص أبناء الكنيسة، فيما استعملت غالبيةٌ متسلّطةٌ نفوذَها متسلّحةً بالمقولة: «هكذا كُتِبَ، وهذه هي المشيئة الإلهية التي لا جدَلَ فيها ولا نقاش». وهذه هي إحدى علامات آخر الأزمنة، باستفحال الكبرياء والشخصنة، وجعل هذه الأيام شرّيرة.

 

يا أحبّة، إنّ الكنيسةَ بهيةٌ، خادمةٌ ومتواضعةٌ، رسوليةٌ معلّمة، غنية مِعطاءُ، لكنّ بعضَ رجالاتِها وأسيادِها وملائكةِ أبرشياتها ورعاياها، يدفعون بنا إلى أن نراها بشعةً على صورتهم ومثالهم. وذلك لأنّهم لا يشهدون للحقّ بل يقفون إلى جانب الباطل.

 

إلّا أنّ قِوى الشرِّ لن تقوى عليها وقُوتُها اليومي جسدُ المخلّص ودمُه، وكينونتُها القيامةُ بعد الصليب.

الأكثر قراءة