كان دايلون ليفرامينتو مستلقِياً على الأرض. بيكو لوبيز يبحث عن والده في المدرجات. ستوبيرا يعانق الجميع. ستيفن مورييرا لا يعرف ماذا يفعل بنفسه.
«حالياً، لا أظنّ أنّني أعرف ما الذي أشعر به»، أقرّ مورييرا وهو يبتسم ابتسامة عريضة توحي بأنّه سيفهم ذلك قريباً بما فيه الكفاية. لكن من الصعب أن تعرف كيف يجب أن تشعر حين تكون قد ساعدت بلدك على التأهل إلى كأس العالم للمرّة الأولى في تاريخه. خصوصاً عندما تكون ثاني أصغر دولة على الإطلاق تصل إلى أكبر حدث رياضي في العالم، بعد أيسلندا.
جزر الرأس الأخضر، وهي مجموعة من 10 جزر، تقع قبالة الساحل الغربي لإفريقيا ويبلغ عدد سكانها نحو 525 ألف نسمة، وكانت مستعمرة برتغالية حتى عام 1975، أنجزت أمراً أشبه بالمستحيل.
كانت بحاجة إلى الفوز في مباراتها الأخيرة ضمن التصفيات ضدّ إسواتيني لإنهاء المهمة وتصدّر مجموعة ضمّت الكاميرون، التي شاركت في 8 من آخر 11 مونديالاً. على الورق، بدت المباراة سهلة نسبياً أمام فريق لم يفز بمباراة في تصفيات كأس العالم منذ عام 2015، لكنّ الشوط الأول لم يكن كذلك: 45 دقيقة كانت أشبه بانهيار عصبي وطني أكثر منها مباراة كرة قدم.
رسمياً، كان هناك نحو 15 ألف متفرّج في الملعب. لكن بالنظر إلى مدى امتلاء الممرّات والمقاعد، فالعدد الحقيقي ربما كان أعلى بكثير. كانت التذاكر نادرة: بيعت في محطات الوقود ومتاجر المعجّنات في العاصمة برايا. بعضها بيع عبر الإنترنت للمغتربين، لكن كثيراً منها وصل إلى أقاربهم في الداخل. وأينما اشتروا تذاكرهم، كان القلق بادياً عليهم: هل كانت الفرصة التاريخية تتبخّر؟
لكنّ كل ذلك التوتر تلاشى عند الدقيقة 48، عندما اندفع ليفرامينتو ليُسجّل من كرة مرتدّة، ففَقدَ كل مَن في الملعب صوابه. بالكاد استعادوا أنفاسهم بعد 6 دقائق، حين سجّل ويلي سيميدو الهدف الثاني. تحوّلت بقية المباراة إلى احتفال ضخم. كل تمريرة كانت تُستقبل بصَيحة «أولي!» منذ الدقيقة 65. حتى أحد رجال الشرطة بدأ في تحفيز الجماهير، متناسياً مهامه الرسمية.
وفي الوقت بدل الضائع، جاءت الخاتمة المثالية حين أضاف ستوبيرا (37 عاماً) الذي اعتزل قبل عامَين ثم عاد من أجل هذه الحملة، الهدف الثالث من متابعة على القائم البعيد. احتفل به زملاؤه كما لو أنّهم هُم مَن سجّلوا الهدف. وأكّد مورييرا: «كنّا بحاجة إليه، فعاد، جلب لنا طاقة إيجابية وروحاً جميلة. أنا سعيد جداً من أجله، ومن أجل الجميع».
خلع قميصه وسترة مراقبة نبضه. وقف الحكم رافعاً البطاقة الصفراء وكأنّه ينتظر 10 دقائق ليعود ستوبيرا إلى كوكب الأرض. على الأرجح، لم يهتم أحد يوماً ببطاقة صفراء كما لم يهتم هو في تلك اللحظة.
سافر زيفو دي بينا من بوسطن إلى برايا لحضور المباراة الكبرى. ولاية ماساتشوستس تضمّ جالية كبيرة من أبناء الرأس الأخضر، وهو يُدير موقعاً إلكترونياً مكرّساً لإنجازات البلاد الرياضية اسمه Criolo Sports. يشرح إنّه كان على متن الطائرة نحو 50 شخصاً آخرين يتوجّهون إلى الوطن: «كان عليّ أن أكون هنا».
نظر إليّ باستغراب عندما سألته إن كان التأهل إلى كأس العالم هو أعظم إنجاز رياضي في تاريخ البلاد. كانت ملامحه أشبه بمَن تنظر إليه وتسأله إن كان يستطيع العدّ إلى 5. لكنّه أجاب بلطف: «تأهلنا إلى كأس العالم لكرة السلة وكأس العالم لكرة اليَد، لكن هذا سيتفوّق على كل ذلك».
أمّا أحد المشجّعين ويدعى أوليسيس، فيرى أكثر من ذلك: «سيكون أعظم حدث في تاريخ الرأس الأخضر». فسألته: في الرياضة؟ فأجاب: «في كل شيء!». لكنّ الغريب أنّه على رغم من التوتر الذي ساد الشوط الأول، لم يكن أحد يبدو قلقاً قبل المباراة.
في صباح يوم اللقاء، بدا وكأنّ اللاعبين يستعدون ليوم على الشاطئ. ضحك صاخب، جدال ودّي حول أمر ما في هاتف أحدهم، لا أثر للضغط.
ربما هذا هو أثر مدربهم، بوبستا، الذي أمضى كامل مسيرته في الرأس الأخضر، وتدرّج من مساعد مدرب إلى الرجل الأول، ويحمل طابع «العمّ الهادئ»، الذي لا يحتاج إلى تشجيع ليروي قصص شبابه. وقف على خط التماس ضدّ إسواتيني مرتدِياً بنطال جينز.
في المؤتمر الصحافي عشية المباراة، سُئل بوبستا إن كانت هذه أكبر مباراة في حياته. صمتَ قليلاً، حدّق في السائل، وابتسم، بينما كتَمَ المهاجم راين مينديز ضحكته بجانبه. كانت أسهل إجابة يمكن أن يُعطيها. تحدّث مطوّلاً، لكنّ جَوهر جوابه كان بسيطاً: نعم، بالتأكيد هي كذلك.
قبل المباراة بيومَين، اعتبر الجناح غاري رودريغيز «إنّها لحظة خاصة بالنسبة لنا، لكن يجب أن نستمتع بها، يجب أن نغتنمها». خلال الإفطار، تجمّع بعض اللاعبين حَول ملصق قدّمه لهم طفل صغير يُدعى لوكاس، ويتضمّن صوراً له مع معظم لاعبي المنتخب ورسالة حظ سعيد. أحد اللاعبين حمله بعناية خارج القاعة لحفظه.
احتفالات شعبية منذ ما قبل المباراة
في مساء اليوم السابق للمباراة، تجوّل الفريق بأكمله في سوق بشارع «أفينيدا سيدادي دي لشبونة» في وسط المدينة قرب الملعب الوطني القديم. كان المشهد فَوضَوياً قليلاً، لكن على رغم من وجود بعض الحرّاس الأمنيِّين، لم يكن هناك قلق عندما تقدّمت امرأة وعانقت لاعب الوسط يانيك سيميدو بحرارة.
تعالت التصفيقات والهتافات وصور السيلفي في كل مكان. بعض الشبان خلعوا قمصانهم وراحوا يُلوّحون بها فوق رؤوسهم. امرأة أخرى أخرجت علماً ضخماً للرأس الأخضر بعرض مترَين ولوّحت به بحماس أمام عدسات المصوّرين وطاقمَي تصوير مرافقَين. كانت هناك أحاديث عن وثائقي محتمل على «نتفليكس».
كل ذلك أظهر مدى ارتباط المنتخب بالناس، ومدى قربه منهم: لوكاس تمكن ببساطة من دخول الفندق لتسليم الملصق من دون أي مشكلة. لم يمنع أحد الناس من الاقتراب خلال الجولة. هؤلاء اللاعبون ينتمون للأمة، على الأقل الآن.
نجاح الرأس الأخضر لم يكن صدفة. قبل سنوات، قرّر الاتحاد المحلي لكرة القدم استثمار طاقات الجاليات المنتشرة في المهجر. فقد شهدت الجزر مَوجة هجرة واسعة في الستينات والسبعينات قبل الاستقلال، ما جعل للرأس الأخضر جيوباً صغيرة في أنحاء العالم.
ومن هذه الجيوب وُلد منتخب وطني جديد. ضمّت قائمة مباراة إسواتيني لاعبين وُلدوا في البرتغال، فرنسا، إيرلندا وهولندا، بالإضافة إلى أبناء الجزر. اللاعبون الـ25 ينشطون في 15 دولة مختلفة، من مورييرا في الولايات المتحدة إلى أيلسون تافاريس في إسرائيل مروراً بلوبيز في إيرلندا.
أكّد المدير الفني للاتحاد روي كوستا: «تغيّرنا كثيراً. منتخب تحت 17 عاماً يَسير بشكل جيد، وفريق السيدات قد يتأهل إلى كأس أمم إفريقيا. لدينا فلسفة لعب الآن. الخطوة التالية هي إدخال جيل الشباب. الجميع يُريد اللعب للرأس الأخضر اليوم».
تأهل غير مفاجئ
تأهل المنتخب إلى كأس الأمم الإفريقية 4 مرّات، وبلغ ربع نهائي النسخة الأخيرة في ساحل العاج. لكنّه لن يكون في النسخة المقبلة في المغرب بعد فشلٍ مفاجئ في التصفيات. على رغم من ذلك، التقدّم واضح: عند مطلع الألفية، كان ترتيبه 182 عالمياً، واليوم هو في المركز الـ70، وسبق أن بلغ المركز 27 كأفضل ترتيب له.
ساعدت أموال «فيفا» في تطوير المنشآت، إلى جانب استثمارات صينية ساهمت في بناء الملعب الوطني، مسرح الانتصار على إسواتيني.
الملعب عبارة عن حَوض بيضاوي يحوط به مضمار جري، يَبعُد نحو 20 دقيقة عن وسط العاصمة. وبفضل مصدر تمويله، فإنّ العديد من اللافتات داخله مكتوبة بالإنكليزية والصينية، لا بالبرتغالية أو الكريول.
عندما توفّيَ بيليه في أيلول 2022، أعلن رئيس الوزراء أوليسيس كوريا إي سيلفا، أنّ الملعب سيُسمّى تيمّناً بالأسطورة البرازيلية، تجاوباً مع اقتراح غريب نوعاً ما من جياني إنفانتينو بأن يُسمّي كل بلد ملعباً باسمه.
لكن تبيّن لاحقاً أنّ بيليه لم يزر الملعب قط، وربما لم يزر الرأس الأخضر أصلاً، فتمّ التراجع عن القرار والاحتفاظ باسم «إستاديو ناسيونال». يعيش روبرتو «بيكو» لوبيز أسبوعاً لا يُصدَّق. والتأهل إلى كأس العالم ليس حتى أبرز ما فيه.
لوبيز، المدافع المولود في إيرلندا، جُنِّد للمنتخب عام 2019 عبر رسالة على «لينكدإن» ظنّها أولاً مزحة أو رسالة مزعجة. زوجته ليا تنتظر مولودهما الأول خلال أيام، لذلك غادر مباشرة بعد المباراة متّجهاً إلى المطار، متخلّياً عن الاحتفالات ليصل إلى إيرلندا في الوقت المناسب للولادة. وأكّد قبل المباراة بيومَين: «كرة القدم ليست أول ما يخطر في بالي»، موضّحاً أنّ قُرب الأبوة ساعده في التعامل مع الضغط: «يجب أن تحافظ على منظورك. نعرف ما يعنيه هذا الأمر. لكنّ دافعي الأساسي هو أن أنهي المهمّة وأعود إلى المنزل لأشهد ميلاد طفلي الأول. وأي عطلة عائلية أولى أجمل من السفر إلى أميركا لكأس العالم؟».
يملك لوبيز أصول الكاب فيردي من والده. لا يزال لديه أقارب كثر في الجزر، بينهم أعمام وعمّات وأبناء عم وجدّه البالغ 98 عاماً، الذي لا يزال يعمل في المزرعة العائلية. «لم يَعُد يرفع الأشياء الثقيلة، لكنّه لا يزال يُشير بإصبعه ويُعطي الأوامر».
يعترف بأنّه لم يكن يعرف الكثير عن جذوره، وكان يشعر بالحرج من الحديث عنها لأنّه لم يطرح الأسئلة الصحيحة. لكنّ اللعب للمنتخب غيّر كل ذلك: «تعلّمت الكثير عن الثقافة، الناس، الموسيقى، الطعام، ومعنى أن تكون من الرأس الأخضر. الآن عندما أعود إلى إيرلندا وأشارك هذه التجارب، أشعر بالفخر. كل يوم أشعر أنّني أكثر انتماءً».
الخسارة أمام ليبيا لم تكن سوى تأجيل
كاد الفريق يضمَن التأهل الأسبوع الماضي. خسر بشكل مفاجئ 3-1 أمام ليبيا، قبل أن يرتكب حارس مرمى الخصم واحدة من أسوأ الهفوات التي قد تراها في حياتك، ليُسجّل ويلي سيميدو التعادل. ثم ظنّوا أنّهم حسموها حين انفرد جاميرو مونتيرو وسجّل، لكنّ الحكم المساعد رفع رايته في تسلّل لا يمكن وصفه إلّا بأنّه «شديد القسوة». لكن ربما كان من الأنسب أن يتحقق الحلم على أرضهم.
بعد المباراة، احتفل اللاعبون مع الأصدقاء والأقارب والجماهير القادمة من كل مكان. ليفرامينتو، المَولود في روتردام، كان لديه 15 قريباً في المدرّجات.
وأثناء حديث بوبستا للإعلام، اقتحم اللاعبون القاعة وسكبوا عليه كل أنواع السوائل، بينها بيرة خرج من الفوضى وهو يشربها. ثم صعد الجميع إلى الحافلة التي راحت تهتز فعلياً من شدّة الرقص والغناء بداخلها. في المقدّمة، كان بوبستا غاضباً لأنّ حافلة أخرى منعت طريقهم للخروج من الاستاد.
طوال الأسبوع، تناوب اللاعبون على حمل مُكبّر صوت ضخم يبدو قادراً على إسقاط المباني. كانوا يشغلون موسيقى من الرأس الأخضر ومن فنانين أفارقة آخرين، لكن بعد العودة إلى الفندق، ربط أحدهم ميكروفوناً به، وبدأوا يتناوبون الحديث وإطلاق الكلمات الحماسية لبعضهم.
استمرّت الاحتفالات حتى ساعات متأخّرة من الليل. في الملعب الوطني القديم قرب الفندق، أقيم حفل موسيقي ضخم شارك فيه منسقو موسيقى وفنانون، من بينهم شقيق ليفرامينتو، وهو مغني راب هولندي وعضو في فرقة Broederliefde.
وفي مقر الاتحاد المحلي لكرة القدم، توجد إلى جانب صور الفرق القديمة خزانة عرض تضمّ مقتنيات تاريخ المنتخب. من أبرزها راية مباراة ودية ضدّ جورجيا في وقت سابق هذا العام. ويبدو أنّ قِطَعاً أكثر بريقاً ستنضمّ قريباً إلى تلك المجموعة.
ويؤكّد مورييرا: «هذا من أجل الشعب. لقد تابعونا طويلاً، وأنا فخور جداً بأنني ساهمت في كتابة التاريخ من أجلهم».