كيف أصبحنا بشراً؟ رحلة في تطوّر الدماغ والسلوك
د.قصي الحسين
Friday, 10-Oct-2025 06:42

«هل يبقى دماغ الإنسان صندوقاً أسود؟». ارتبطت الفلسفة بعلم البيولوجيا منذ أقدم العصور، حين وجّه المفكّرون والباحثون أنظارهم نحو الكائن العاقل: الإنسان. وقد وقفوا عنده طويلاً، متأمّلين في معانيه، فاغتنوا به وأغنوه، مُحلِّلين أبعاده، مستثمرين ما فيه من غموض وجمال ودهشة.

ففيه وجدوا كنزاً لا ينضب من الأسئلة والمفاتيح، يقود إلى الأصول الأولى ويفتح الآفاق على شتى العلوم. وهذا وحده كان كافياً لأنّ يجعل من الإنسان محوراً لا غنى عنه لأيّ مفكر أو عالم، فلم يسعه إلّا أن يعرج على حياة الإنسان، يقلبها على وجوهها الشتى، ويُمعن فيها النظر، لعلّه يصل إلى مرتجى.
«لقد مرّت مئات الآلاف من السنين من دون أن ننتبه إلى هذا العضو الذي يسكننا، ويُدير حياتنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وأفكارنا وسلوكنا» - حسين صفي الدين.
الباحث حسين صفي الدين هو واحدٌ من أولئك المفتونين بسحر العقل الإنساني. قلّما كتب مقالاً أو وضع مؤلفّاً، إلّا وكان الإنسان محوره ومجاله. فقلّما تجد له أدنى مسكة من مقالة أو كتاب، إلّا وعاد إلى الإنسان ليُعيد النظر فيه، كرة وكرتَين...
في كتابه، كيف أصبحنا بشراً: رحلة في تطوّر الدماغ والسلوك (دار الانتشار، بيروت، 2025، 225 صفحة)، ينطلق صفي الدين من مراجعة شاملة لآراء الفلاسفة القدماء والمفكرين، من فلاسفة اليونان حتى مفكري عصر التنوير. يعقد المقارنات بينهم، ويستخرج من تشابهاتهم واختلافاتهم مادةً تأمّليةً غنيّةً، يجد فيها شغفاً لذيذاً يدفعه إلى الخَوض في دراسة تطوّر الإنسان، في الرحم، والطبيعة، والرؤية التي توصّل إليها العلماء. فكان بذلك خير ناسج للأفكار القديمة، كما للأفكار الجديدة، التي حفّزته على متابعة البحث في حياة الإنسان، وطرح جميع الإشكاليات التي دارت حَوله، وحَول حضوره: كائناً بشرياً، فيه من الغموض ما فيه من الوضوح.
ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول رئيسة:
1- الصفات التفاضلية العامة للدماغ
2- الفردية والفرادة في الدماغ وحقيقة السلوك الفردي
3- الحلقة التطوّرية الأولى وبيئتها
4- تطوّر الدماغ بعد مرحلة النعيم
5- الاصطفاء الاصطناعي
في هذه الفصول، يربط صفي الدين بين التجربة والمعاينة، ويقارن بين الإنسان ككائن بيولوجي، والإنسان ككائن كرونولوجي له زمنه وتحوّلاته. يُحلِّل كيف غيّرت تطوّرات الدماغ سلوك الإنسان ونظرته إلى ذاته والآخر والعالم.
يرى صفي الدين أنّ الفلاسفة لطالما تساءلوا عن مصدر الفكر، مُتتبّعين التحوّل من الإحساس إلى الانطباع، ومن الانطباع إلى الفكرة، كما في تساؤل ديكارت القديم. لكنّه - صفي الدين - يحاول الذهاب أبعد، عبر الجمع بين الفلسفة والعلم، باحثاً عن الإنسان في تاريخه، وتكوينه، ووعيه، وأمله.
كانت أبواب الكتاب وفصوله، بما تضمنته من مواد بحثية، كثيرة ومتشعبة. وإعجازه فيها أنّ الكاتب تميّز بقدرته الفائقة على صياغة ما يُشبه النظريات، بعد تحليلٍ وتدقيقٍ معمّقَين، وهي نظريات يمكن الاستناد إليها في صياغة القوانين. هذا ما يُبرز الدكتور حسين صفي الدين كعالم أكثر منه مجرّد باحث، لأنّه يتأنّى كثيراً في عرض النتائج التي يتوصّل إليها على مدار رحلته البحثية الطويلة.
«الإنسانية اليوم في مرحلة جميلة من تشكّل التفكير العقلاني، ما يسمح لنا بالاستمتاع بالفطرة الغريزية والانغماس قليلاً في الذكاء البشري».
أتاح الباحث بأسلوبه العلمي الراقي فرصة الوقوف على الجزئيات الخفية من جسم الإنسان: مادة وطاقة وإنتاجية. يجد القارئ متعة في المتابعة ودهشة في التفاصيل التي قدّمها، وهذا ما يجعله مشدوداً إلى الكتاب، لا يستطيع أن يضعه إلّا موضع الشغف والاهتمام. فالكتاب يُقدمّ كشوفاً طالما شغلت القارئ، وقد أفردها الباحث في مؤلَّفٍ بالغ البساطة، خالٍ من التعقيد.
«الباحثون في مجال الدماغ، وعلى امتداد سنوات القرن العشرين، أوضحوا تدريجياً بأبحاثهم وتجاربهم، أنّ الجهاز العصبي معزول تماماً ومحمي من نظام المناعة للإنسان».
يجذبك الباحث إلى موضوعات لم تكن لتخطر ببالك. يُثيرها أمام ناظرَيك بأسلوب المفكّر والفيلسوف، حتى يكاد يجعل من جميع ما يطرحه مقولات بسيطة وخارقة في آنٍ. هذه المقولات تهمّ الناس جميعاً وتجعلهم يستلهمونها في طروحاتهم ومناقشاتهم، وفي المسيرة الحياتية التي يقطعونها: ثقافة ودراسة وأسلوب حياة وعمل.
«إنّ حركة سائل النخاع الشوكي متميّزة كثيراً، ومستقلة، ومهمّة أيضاً للدماغ».
يشتمل الكتاب إذاً على مادة غنية، صاغها الكاتب في أبواب وفصول متناسقة. استعرضَ فيها تكوين الإنسان كرونولوجياً، في رحم الطبيعة وفي رحم الأنثى. وقد أكثر من عقد المقارنات والمقابلات لتستوفي المادة حقها من البحث والتحليل، ولتكون الشروح المستلهمة والمكتشفة مقنعة.
«أكثرية الحقول لديها حقول فرعية، ومن الممكن أن توجد في أدمغة البعض وتغيب عند آخرين».
كثيرة هي الفوائد التي يجنيها القارئ من هذا المؤلف/ السفر. أقلّها أنّه سيتعرّف من خلاله إلى نفسه وإلى الناس من حَوله، وإلى الطبيعة البشرية، ومراكز القيادة، بكل غرفها المضاءة والمعتمة.
«الإنجازات الكبيرة لعلم الأعصاب فتحت أفقاً جديداً في حياة البشرية، وساهمت في بناء أسس جديدة للعلوم الطبية ولعلم السلوكيات، بالإضافة إلى العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية عامة».

الأكثر قراءة