هل يكون لبنان أو لا يكون.. هذا هو السؤال الأهم الآن؟!
محمود القيسي
Wednesday, 08-Oct-2025 07:14

قرب حياتنا نحيا، ولا نحيا. كأنَّ حياتنا حِصَصٌ من الصحراء مُخْتَلفٌ عليها

بين آلهة العِقار، ونحن جيرانُ الغبار الغابرونَ.

حياتنا عبءٌ على ليل المُؤرّخ: (كُلّما أخفيتُهم طلعوا عليَّ من الغياب)...

حياتنا عبء على الرسام: (أَرسُمُهُمْ، فأصبح واحداً منهم، ويحجبني الضباب).

- محمود درويش

لم يَعُد يكفي المواطن في اعتقاد «آفلين توفلر» أن يفهم الماضي، وحتى أنّه لم يَعُد كافياً له أن يفهم الحاضر، لأنّ بيئة الحاضر سرعان ما ستتلاشى وتزول. يجب أن يتعلّم كيف يحتسب اتجاه ومعدّل التغيير ويتوقعه. وبحسب التعبير الفني، يجب أن يُكرّر من وضع الفروض الاحتمالية البعيدة المدى حول المستقبل.

 

تمرّ بلاد أرز الربّ في أخطر مراحلها الوجودية... تكون أو لا تكون، فيُصبح معها الوعي والدعوة إليه ضرورة وطنية في طرح رؤية «تقدّمية» رؤيَوية وطليعية، عن حاجة الانتقال بالمجتمع والدولة إلى مرحلة الدولة «الحديثة»، دولة المواطنة والدستور التي تساهم في تطوّر المجتمع بشكل كبير، إلى جانب الإرتقاء والرقي بالدولة إلى المساواة والعدل، عن طريق تعزيزها لدور الديمقراطية والشفافية في بناء وتطوّرها ومؤسساتها.

 

وذلك بأن يكون الشعب، شعب المواطنين هو مصدر السلطات كلّها، وضمان حقوقهم وواجباتهم على مبدأ ترسيخ ثقافة المواطنة في الوعي الاجتماعي العام.

 

وعي الضرورة... وضرورة الوعي... نعم، ضرورة وعي الخروج من «الصندوق» إلى قراءة ما بين «ألغام» الواقع السياسي اللبناني، وواقع الألغام السياسية القادمة إلينا، من أجل ألّا يقف البلد كل مرّة على لُغمِ الإنفجارات الداخلية في ما بيننا، أو لغم الإنفجارات القادمة من الخارج إلينا... هذا من دون أن ندري، أو ندري، أنّنا في مرحلة تضخّم من كل الأنواع الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والأمنية والوجودية غير المسبوقة، التي وصلت إلى نقطة ما قبل «الصفر».

 

يرى عالِم الإجتماع والفيلسوف السياسي الكندي - الأميركي روبرت ماكيفر في كتابه «تكوين الدولة»، أنّ الدولة ليست مجرّد جهاز سُلطَوي أو كيان قانوني جامد، إنّما نسيج متشابك من العلاقات الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية والثقافية، يتطوّر عبر التاريخ ويأخذ أشكالاً مختلفة بحسب السياقات.

 

جوهر الدولة يكمن في كونها أداة لتنظيم التعايش، حماية العدالة، وضمان الحرّية، لكنّها معرّضة دائماً إلى خطر الإنحراف نحو السلطوية إذا ما تحوّلت السلطة إلى غاية بحدّ ذاتها.

 

ويُفكِّك ماكيفر الأساطير المؤسِّسة للدولة، مثل التصوّر بأنّ السلطة تأتي من حق إلهي أو من سيطرة فرد قوي. ويؤكّد أنّ الحكومة نتاج التفاعلات الإنسانية والمؤسسات الاجتماعية، وليست قوّة فوق المجتمع. بهذا يُعيد تعريف السلطة كعملية قائمة على التوافق والتنظيم، لا على القهر وحده. ويؤكّد أنّ المجتمع هو الذي يُغذّي الدولة ويمنحها شرعيّتها، وليس العكس.

 

يضع ماكيفر القانون في قلب النظرية السياسية، بوصفه العمود الفقري الذي يُنظّم العلاقات بين الأفراد والحكومة. الطاعة للقانون ليست مجرّد خوف من العقاب، بل تستند إلى قِيَم اجتماعية راسخة وإلى اقتناع جمعي بضرورته. القانون عنده تجسيد لوعي المجتمع بذاته، لا مجرّد أداة في يَد السلطة.

 

ويُحلِّل السلطة باعتبارها هرماً من العلاقات الاجتماعية، يتوزّع بين مستويات مختلفة. يربط بين السلطة الإقتصادية والوضع الإجتماعي وتأثيرهما في تكوين الدولة. ويرى أنّ توازن الطبقات والحدّ من استغلال السلطة ضروريان لضمان عدالة النظام السياسي، فيعرض مختلف الأشكال: الأوليغارشية، الديمقراطية، الديكتاتورية.

 

الديمقراطية، تُقدَّم كأفضل صيغة تاريخية، لأنّها تستند إلى المشاركة الشعبية والرأي العام. أمّا الديكتاتورية – سواء كانت فاشية، أو شمولية - فهي أنظمة موقتة، تؤدّي في النهاية إلى تفكّك المجتمع وانهيار الدولة.

 

يرى أنّ الثورات تُعيد تشكيل الدولة، لكنّها لا تضمَن النجاح بالضرورة إذا لم تُبنَ على وعي اجتماعي وثقافي. ويشير إلى أنّ وظائف الحكومة نفسها تتحوّل: من الأمن والدفاع إلى الرفاهية العامة، والتدخّل الاقتصادي، ودور متزايد في الثقافة. ينتقد الدولة الحديثة باعتبارها صانعة للحروب ومُعزِّزة للحدود القومية الضيّقة. ويدعو إلى نظام دولي قائم على التعاون والتوازن بين الدول، بدل الصراع والتوسع.

 

كما يناقش الثنائية بين الفردانية والجماعية، ويرى أنّ الحل يكمن في مجتمع متوازن يُحافِظ على حرية الفرد من دون تفكيك النسيج الاجتماعي. الدولة ليست بديلاً عن المجتمع، بل وسيط ينظّم التفاعل بين مكوّناته. المغزى الأساسي هو أنّ الدولة شبكة بشرية ديناميكية، تنجح بقدر ما توازن بين الحرّية الفردية والعدالة الاجتماعية. الديمقراطية ليست مجرّد آلية انتخابية، بل ثقافة اجتماعية ووعي جمعي يضمنان المشاركة والتوازن. من دون هذا الوعي، تتحوّل الدولة إلى أداة قمعية وتفقِد وظيفتها الإنسانية.

 

نحن في لبنان ومنذ عقود نعيش، أو بالحقيقة نموت يومياً ما بين الشك واليقين: الشك في البقاء أحياء، واليقين في وطن أصبح لا يصلح سوى للموت والنسيان، بفضل تحكّم وسيطرة طبقة عميقة حاكمة.

 

نعيش أسرى توزيع المواقف والأدوار والعواصف والحروب، أسرى تراجيديا السياسات القاتلة في تفصيل قانون انتخابي من هنا على مقاس هذا أو ذاك، وقانون انتخابي من هناك لتحقيق «المستحيل» لأجندات داخلية وخارجية، تخدم مصالح هذا أو ذاك. في حين، نحن نستجدي «الأوكسجين» في بلد «الهوا دوا» تاريخياً.

 

نعيش عصر الكوميديا السياسية السوداء، نعيش ونموت عصر الأجندات والهويات القاتلة في «واقعية مصالح» الآخر في بلادنا ووكلائهم من أبناء البلد في الهوية اللبنانية فقط. ما يجري في هذه الأيام بين مكوّنات السلطات الثلاث لا يرتقي إلى مستوى مأساة أو مهزلة وطن يموت على قارعة الطريق. وطن يموت فيه المواطن كل يوم على أبواب المصارف، والمستشفيات. بلد أصبح يعيش في دهاليز فبركة قانون انتخابي لمصلحة هذا أو ذاك، من دون النظر إلى المصلحة الوطنية وقيامة لبنان الجديد، قبل فوات الأوان بين هذا وذاك!

الأكثر قراءة