هل الرصاصة التي اخترقت عُنقَ كيرك كان المقصود بها اغتيال الرئيس الأميركي القادم: ترامب الثاني، أو وريث الترامبية الأكثر نشاطاً وشعبية وشهرة، خصوصاً في الجامعات صانعة القادة، والمجمعات الأميركية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية؟ رصاصة لا تزال أصداؤها تُدوّي في أرجاء العالم، وخصوصاً في بلاد العم سام أو العم ترامب، الذي بلغ من العمر عتياً. رصاصة أحدثت صدمة كبيرة في الجسد السياسي الأميركي وأبعد...
هل المشكلة الأكبر أنّ الحادثة تأتي في وقت تتعرّض فيه الديمقراطية الأميركية إلى تشكيك متزايد، في حين تُثار التساؤلات حول مدى قدرة النظام السياسي الأميركي على احتواء العنف السياسي في المستقبل القريب، بعد انقسامات المجتمع أو المجتمعات الأميركية عمودياً وأفقياً، لأولئك الذين لم يلاحظوا بعد هذه المفارقات التي قد تأخذ أميركا إلى أكثر من مجرّد حرب أهلية... وأكثر من 11 أيلول داخلي هذه المرّة في بلاد الانقسامات الحادة دينياً وعرقياً وطبقياً.
هل صحيح أنّ اغتيال تشارلز كيرك كشف قمة جبل الجليد في صراع وانقسام يضرب الولايات المتحدة منذ شروق شمس المحافظين الجدد الحارقة؟
رأت الكاتبة ألكسندرا فويتولوفسكايا، أنّ اغتيال السياسي الأميركي الشاب لم يكن حدثاً عابراً، بل محطة فارقة تكشف عمق الإنقسام الذي يضرب الولايات المتحدة. وأكّدت في مقال رأي نشرته وكالة «تاس» الروسية، أنّه في 10 أيلول، سقط كيرك برصاص قناص خلال فعالية في جامعة ولاية يوتا، وقُدِّم لاحقاً في الإعلام المحافظ بوصفه «شهيد الترامبية» ورمزاً لصراع لا ينتهي بين معسكرَين متناقضَين: أميركا الليبرالية وأميركا المحافظة.
في ظلّ هذه الأجواء، من السهل أن تخرج الأمور عن السيطرة، فسارع ترامب إلى لوم «اليسار الراديكالي» على الحادثة، بينما بادرت شخصيات يمينية بارزة بإلقاء اللوم على «الحزب الديمقراطي» في الهجوم من دون دليل (أُفرِج عن المشتبه فيه الأول الذي انتشرت صورته، بسبب عدم وجود أدلة على تورّطه. ومن دون ذكر أنّ المشتبه الثاني، المَوقوف حالياً، ليس سوى نسخة مُعدّلة عن هارفي أوزوالد المُتَهم في اغتيال جي إف كيندي في 22 تشرين الثاني 1963) داعيةً إلى شنّ حملات قمع على الليبراليِّين واليساريِّين، الحُجّة التي يستعملها اليَمين الأميركي دائماً!
وفقاً للكاتب الأميركي زاك بيشامب في موقع VOX، فإنّ «النظام السياسي الأميركي الآن ينهار، والعديد من أدواته لاحتواء العنف السياسي مُحطّمة، كما أنّ الحزبَين الرئيسَيين وأنصارهما ينظرون إلى بعضهم البعض بشكل متزايد ليس كشركاء، بل كتهديدات وجودية. وفي وقت يبدو فيه ترامب ميّالاً لتوسيع استخدام السلطة القمعية، فإنّ أشباح العنف السياسي تزداد، حاملة المزيد من المخاطر على الديمقراطية والسياسة الأميركية».
هل أميركا أولاً، والعالم ثانياً أمام لحظة تحويلية في السياسة الأميركية، ستكون لها تداعيات كبيرة، وهو ما تبرهنه ردّات الفعل المتتالية للسياسيِّين الأميركيِّين؟ أصدر الرؤساء السابقون جو بايدن، أوباما، جورج بوش، وبيل كلينتون، تعليقات وبيانات إدانة للحادث، وحذّروا ضمنياً من العنف، في حين وقف أعضاء مجلس النواب حداداً خلال جلستهم، قبل أن يتبادلوا الاتهامات بالمسؤولية.
سؤال آخر لا يقلّ أهمية وخطورة: هل يُريد اليمين واليمين المتطرّف الأميركي تحويل مقتل كيرك إلى لحظة ملحمية؟ لحظةٌ ستدفع أميركا نحو المزيد من التطرّف والعنف والمجهول، وتضع المزيد من الضغوط على ديمقراطيتها ونظامها السياسي الذي يتعرّض ربما إلى الإختبار الأكثر خطورة منذ تأسيسه. هذا من دون ذكر أن تكون جهات دولية أو دولة خارجية لها ما لها من القوّة في اللوبيات الأميركية المتواجهة، خصوصاً في الدولتَين «الأميركيّتَين» العميقتَين المتصارعتَين من قمة الهرم إلى قاعدته السياسية!
وفي حين اتهم ترامب خطاب «اليسار الراديكالي» بالمساهمة في مقتل كيرك، الذي وصفه بأنّه «شهيد الحقيقة والحرية»، طرح بعض المغرّدين السياسيِّين والإعلاميِّين تحليلات حول الجهات المستفيدة من اغتيال كيرك، متسائلين عن إمكانية وقوف جهات معيّنة خلف الحادث، سواء بهدف استعادة التعاطف الشعبي مع إسرائيل أو كنتيجة لتنامي تيار مناهض للصهيونية في الولايات المتحدة.
في حين، اعتبر البعض أنّ دلالات عملية الاغتيال التي وقعت داخل حرم جامعة أميركية، مؤشر خطير إلى وصول الاستقطاب السياسي إلى المؤسسات التعليمية، واسترجع بعضهم أحداث «حراك طلاب الجامعات» والتدخّل الأمني في الجامعات، مشيرين إلى تصاعد حِدّة الاستقطاب في المجتمع الأميركي حالياً بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة.
وفي سياق التعريف، إنّ كيرك أحد أبرز - إن لم يكن أبرز - وجوه التيار المحافظ الأميركي الشاب، ومؤسس المنظمة التي تنشط في الجامعات لنشر الأفكار اليمينية ومواجهة التيارات الليبرالية. وهو أحد أبرز داعمي الرئيس ترامب، ويُعرَف بمواقفه المؤيّدة بقوّة لإسرائيل، خلال الحرب الأخيرة على غزة.
وعلى رغم من دعمه السياسي والإعلامي لإسرائيل، فإنّه يعارض توسيع التدخّل العسكري الأميركي المباشر، انسجاماً مع توجهات تيار «أميركا أولاً»، جامعاً بين الدفاع الصارخ عن إسرائيل والتشكيك في الروايات الإنسانية، مع الحذر من التورّط الأميركي الميداني في الصراع، فجعل إسرائيل واللوبي الصهيوني في واشنطن ينظرون إليه بعَين القلق والتوجّس.
فقد عوّلت إسرائيل على كيرك ومناصريه لتحقيق هدفها في محاربة التشكيك في التحالف الأميركي الإسرائيلي المتنامي بين بعض مؤيّدي ترامب، خصوصاً الشباب. لكنّ ذلك لم يمنع كيرك من تلقّي اتهامات بمعاداة السامية في المناسبات القليلة التي انتقد فيها اليهود لأسباب «عرقية»، كما فعل في نيسان الماضي حين اتهم «بعض المجتمعات اليهودية بممارسة نوع الكراهية عينه ضدّ البيض، وهي تريد من الناس التوقف عن ممارستها ضدّها». وتعرّض كيرك إلى اتهامات مماثلة بسبب ظهوره في نقاشات حول اللوبيات الداعمة لإسرائيل في الولايات المتحدة. ففي مقال على صحيفة «ذا تايمز أوف إسرائيل» كتبت دانييلا بلوم أنّه بعد مشاهدتها لـ Focus group كان تشارلي كيرك حاضراً فيها وناقشت مسألة AIPAC (أبرز منظمات الضغط المؤيّدة لإسرائيل في الولايات المتحدة)، شعرت بكسرة القلب والحزن الشديد، ليس فقط بسبب ما قيل في تلك الجلسة، بل لما لم يُقل أيضاً. فبالنسبة إلى الكاتبة، أن تجرؤ مجموعة من الناس على مناقشة مثل هذا الأمر يُعدّ فتحاً لأبواب كراهية إسرائيل في أميركا. تلك الأبواب التي تخشاها إسرائيل!