عندما كنتُ في روسيا، تواصل معي أحد الخبراء السياسيِّين الأوكرانيِّين، الذي عمل مستشاراً للرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش، عبر صديق مشترك، لأنّي درستُ في معهد الدبلوماسية، وكان هو موجوداً في الكلية.
أثناء الحديث عن أوضاع الشرق، فاجأني بقوله إنّ العالم العربي فيه 430 مليون شخص يُحلّلون في القضايا السوفياتية، كلّهم محلّلون سياسيّون! بينما في أوكرانيا، التي يبلغ عدد سكانها 40 مليون نسمة، نتمنّى لو كان لدينا عشرة خبراء فقط في شؤون الشرق الأوسط.
دُهِشتُ من نظرته العميقة لطبيعة التحليل السياسي، وكيف تعمل القنوات العالمية على تقديم خبراء واختصاصيِّين، يُقدّمون معلومات كافية للجمهور على الشاشات، فيستطيعون التأثير على الرأي العام ويُغيّرون التوجّهات المتبعة تجاه الحرب والسلام والعلاقات الاقتصادية وكل ما يشبه ذلك.
تحليل بلا مؤهلات وتعبئة فراغ...
بالعودة إلى كلامه، يلفت نظري أسماء المحلّلين واختصاصاتهم التي لا تمُتّ إلى العلم بصلة، وكأنّها صفة تكمن أهمّيتها فقط لتبرير وجود هذه الشخصية التي تستضاف على الهواء، لتعبئة فراغ باتت العادة في التلفزيونات الفضائية تغطيته من خلال الاستضافات.
وما أكثر هذه المنصات الفضائية التي يتسابق الأشخاص إليها حتى من دون التمكن من تغيير الثياب! والأهم أنّ المواضيع مختلفة، والتسمية الاختصاصية للشخص الواحد تختلف حسب الشاشة والموضوع.
مَن يظهر أولاً... يصبح ضيفاً!
عندما تسأل كثيراً من الأشخاص الذين تكمن مهمّتهم في القناة بتأمين ضيف، يكون الردّ بأنّ "هذا هو الذي استجاب"، وكان أولوية القائمة للاسم الذي يبرز سريعاً، من دون الذهاب في بحث حول أشغاله العلمية أو إنتاجاته المتعلّقة بالموضوع المطلوب.
لكنّ الأهم أنّ الإجابة تكون جاهزة: "الجمهور عايز كده"، وهذه مسألة عبثية، يردّ بها شخص يعمل في الفترة الإخبارية للتواصل مع ضيوف لتأمينهم للفقرة، فهو يمارس عمله ليس كصحافي أو خبير، بل بمهمّة كموظف في القناة.
طبعاً، هنا يمكن القول إنّ الاختيار يتمّ حسب المذهب أو الحزب أو المنطقة، لأنّه "تعبئة هواء"، وهي، كما يقول المثل، "دار تنفيعة شخصية. وأنّ الصفة المطلوبة لشخص المحلل تبقى غائبة".
المحلل السياسي، راوي الأحداث وصانع الفهم
في عالمٍ يموج بالأحداث، وتغرق فيه الشاشات بعناوين الأخبار العاجلة، يبرز شخصٌ لا يلهث وراء الحدث، بل يتوقف أمامه، يتأمّله بعمق، ويطرح السؤال الأهم: "ماذا يعني هذا؟". ذلك هو المحلل السياسي.
هو ليس مجرّد مشاهد على مقعد المتفرّجين، بل أشبه بعدسة مكبّرة يرى من خلالها ما وراء السطور، ويُفكّك بها تشابك الأحداث. قد تجده في برنامج حواري مسائي، أو في مقالة طويلة على صفحات صحيفة كبرى، وربما يجلس وحيداً في مكتبه، يقرأ تقريراً سرّياً أو دراسة أكاديمية، يرسم في ذهنه خريطة من الفرضيات والتوقعات.
في بداية كل تحليل، يقف المحلّل أمام كتلة من المعلومات: قرار حكومي جديد، زيارة رسمية، أو حتى تغريدة من رئيس دولة. لكنّه لا يكتفي بما هو ظاهر، بل يبدأ رحلته عبر السياق. ماذا حدث من قَبل؟ ما الأسباب التي دفعت إلى هذا القرار؟ مَن المستفيد؟ مَن الخاسر؟ ومَن الصامت الذي قد يتحرّك لاحقاً؟
هنا تبدأ الأدوات الخفية التي يستخدمها: أرشيفه الشخصي من الأحداث، دراسته للأنظمة السياسية، إلمامه بالجغرافيا والتاريخ، واطّلاعه على توجّهات الرأي العام. هو يَزن التصريحات لا بوقع كلماتها، بل بميزان المصالح والتحالفات.
في مرّات كثيرة، يكون عليه أن يَسير في حقل ألغام. فالكلمة قد تُفسر، الموقف قد يُنتقد، والحياد أحياناً يبدو خيانةً في أعيُن المتعصّبين. لكنّه يعرف أنّ مهمّته ليست في إرضاء الجميع، بل في تقديم قراءة منطقية وواعية تساعد الناس على فهم ما يحدث، لا فقط رؤيته.
والمثير أنّ المحلل السياسي لا يعمل دائماً في الضوء. فالكثير منهم يعملون في مراكز أبحاث، يقدّمون تقارير لصنّاع القرار، يرسمون سيناريوهات للمستقبل، ويقترحون سياسات بناءً على ما يرونه من مؤشرات.
إنّه قارئ الحاضر، باحث في الماضي، وصاحب رؤية نحو المستقبل. ليس نبياً يتنبّأ، بل عقل يُحلّل. يعتمد على المعلومة، يصقلها بالمنهج العلمي، ويربطها بفهم واقعي للناس والدول والأنظمة.
في النهاية، قد تختلف مع المحلل السياسي أو تتفق، لكن لا يمكنك أن تتجاهله. فهو مَن يمنح السياسة بُعداً آخر، يجعل منها علماً وفناً، لا فقط مسرحاً للصراع.
خبراء من كل شيء بلا اختصاص...
الخبير الرياضي هو محلّل على القنوات، ويُصبح يفهم بكل القضايا الدولية، ويقدّم نفسه كخبير دولي وكاتب سياسي ومتخصّص استراتيجي! وكل مَن يحاول الكتابة من اختصاصات أخرى للردّ على موقف أو توجّه لا يعجبه، يصبح "صحافياً من صحيفة الرأي" بمقاله المنشور، وكثيراً ما تكون هذه المقالات لا تصلح للنشر بسبب غياب المقوّمات الإعلامية.
المراسل يُصبح محلّلاً، ومَن يكتب مقالاً في أحد المواقع الإلكترونية يصبح محلّلاً، ومَن يكتب تحقيقاً غير معروف مصادره يخرج إلى الهواء ليكون محلّلاً.
الأنكى من ذلك، أنّ ضيفاً آخر يُستقدم لمناقشة تقريره كأنّها معلومات أكيدة! وطبعاً، في ظل وفرة المنصات، وعلى الصفحات الأوكرانية، ما أكثر الذين يكتبون ويقدّمون أنفسهم ككتاب إعلاميِّين، فيُصبحون محلّلين سياسيِّين ونقاداً.
التحليل الاستراتيجي... وظيفة إضافية للمتقاعدين؟
أمّا العمداء المتقاعدون في الجيش، فقد احتلوا القنوات بالتحليل الاستراتيجي والعسكري والسياسي، وكأنّها وظيفة إضافية تُقدّم لهم. وطبعاً، قلّة قليلة منهم مَن تستطيع فعلياً تقديم صورة عسكرية لأي حدث أو أزمة داخلية أو خارجية.
فالمشكلة في تقديم صحافيِّين متابعين ومختصّين، أو خبراء أكاديميِّين، أو ضيوف لهم ثقل فكري وإعلامي وسياسي، ناتجة من غباء الشخص الذي يأتي إلى المحطة، وخلال سنة من عمله، يتحكّم ويحاول فرض شروط على ضيوف ظهروا في المحطة لأكثر من 15 عاماً.
تجاهل الكفاءات لأسباب شخصية!
الغباء أيضاً، عندما تحاول تجاهل شخصيات معيّنة عن الظهور، لاعتبارات شخصية، أو لأنّك تريد أن تضعها في أوقات "ميّتة"، لصالح أشخاص جدد لا يمكن أن يكونوا كفوئين في الظهور.
الجمهور ينتقد لأنّه متابع، لكنّه لا يستطيع إيصال صَوته من خلال ملاحظاته على الأداء البشع لهؤلاء الضيوف: عدم احترام الضيف الآخر، محاولة مقاطعة المذيع، عدم إعطائه الوقت لبلوَرة سؤاله، استخدام كلمات بذيئة في التعبير، الإهانة والشتائم. لكن للأسف، يعود المشهد مجدّداً مع الضيف نفسه الذي يُستدعى مرّة أخرى!
شعار "الرأي والرأي الآخر" مجرد ذريعة!
عند الاستفسار، يأتي الجواب: "يجب إعطاء الفرصة لطرف آخر بالظهور، وكأنّ المحطات تعمل تحت شعار الرأي والرأي الآخر". لكنّ كل ذلك يحدث، وتتعرّض القناة إلى الإنتقاد، ويبتعد عن مشاهدتها الكثيرون، بسبب غياب المراقبة الفعلية لأداء الضيف، وطبيعة ردّه، ونوعية الأسئلة الموجّهة إليه، ومدى تعمّقه في الموضوع، وما أهمّية المعلومات المقدّمة. وهذا ما بتنا لا نراه في استراتيجية عمل قنوات كبيرة ومهمّة، إذ باتت تعاني من خلل داخلي نتيجة غياب الإشراف المباشر، تدنّي نوعية الكوادر، أو غياب الكادر المراقب للعمل الإعلامي، وكيفية إدارة الهواء.
في ظلّ هذا الواقع الإعلامي المرتبك، تبقى الحاجة ملحّة إلى إعادة الاعتبار للتحليل السياسي الجاد، القائم على المعرفة والخبرة لا على الظهور والتسويق. فالجمهور العربي، على رغم من كل شيء، يستحق محتوى يَحترِم وعيِه، ويُقدِّم له المعلومة الدقيقة لا الضجيج المجاني. وربما تبدأ رحلة التصحيح من سؤال بسيط: مَن هو المحلل السياسي؟ وما الذي يجعله يستحق الجلوس أمام الكاميرا؟