«سرجيو كوراتسيني» في إلياذةِ الخريفِ والمطر
نسرين بلوط
Tuesday, 09-Sep-2025 06:47

ربّما يكرّسُ الإذعانُ الكاملُ لإلياذةِ هوميروس السبيلَ الدائمَ لبعض الشعراء، للتشكّي والنواح على أطلال القصيدة، التي خلّفها اليأسُ المبطّنُ في أعماقهم، واكتستها ملامحُ التشتّتِ التي توجدُ الثغرات في بنائِها وتركيبها، لأنّ أعظمَ منهجٍ حرفيّ قد يتراجع، أمام التدفّق الهائل للعواطف المتداخلة التي تعوقُ فصلَ عناصر البوح، وتعلّقُ عمليّةَ الخلق الفنّي لها، وهذا ما تطرّقَ إليه معظمُ شعراء عصر الكلاسيكيّة، مثل الشاعر الإيطالي سرجيو كوراتسيني.

سعى كوراتسيني إلى تنحيةِ المهارةِ الفنيةِ في قصائده طوعاً، ليطلقَ العنانَ للتقائيةِ «التنكّرية»، أي التي لا تظهرُ كلَّ المكنونات المتوغّلة في داخلها، وربّما تحتفظُ بالقليل لتجنّد خصوصيّتها للاوعي المتأصّل في جذورها، وتسهبَ في التحويم حول الانطباعاتِ الزمنية الوقتية، لينفصمَ الإبرامُ على العمل الفنّي، ويضيعُ القارئ بين جهوزيةِ المشهد ومزاجيةِ الكاتب، وقد ساعدَ الالتفافُ حول الأضواء الموضوعية للشاعر في تجهيز خصوبتِه الابداعية نحو حيّز الضوء.

 

في قصيدته «حدائق» يقول كوراتسيني: «آهِ أيَّتها الحدائق الصغيرة الغافية في سُباتٍ بين سكينةٍ وعُذوبات، أيّتها الحارسة والمستسلمة لوَشوَشاتٍ، وقُبَلٍ ومُداعبات، آهِ يا مُلتقَى أحلامٍ طاهرة ورغباتٍ منزَّهة، وأحزانٍ لامتناهية يا حدائق تذوق فيها المغرِّدات المجنَّحة نشواتٍ ليلية آهِ كم أحبُّك! الأحلام التي ينغلق عليها قلبي، تزهرُ، أيَّتها الحدائق على طول المسالك، داخلَ أيكاتِك أحبُّك، أحبُّك، أيَّتها الملْقَحة بشمس الربيع في صباحاتٍ خاملة أيَّتها الحدائق، يا ضحكات الأرض».

 

هي قصيدةٌ بسيطةٌ في ظاهرها، مزنّرةٌ بالفيضِ الساري من الأحاسيس، تجمعُ بين الطبيعةِ والليل والحدائق المجنّحة بهبّات النسائم والأرض الجذلى، تشقُّ حجابَ الإنطواء الذاتي لتقتلعَ جذورَ الكبتِ والتواري وراء الأحجية، فالسكينة هي الصبو المنشود الذي يرافقُ الشعراءَ في رحلتهم نحو الوحدة الاختيارية، والأحزانُ هي الشعور الذي يناقضُ الأحلام لكنّها تتاخمها في التوجّه الانتقالي من حالةٍ إلى حالة، وهنا تجتمعُ العناصرُ التلميحية لتغطّي رقعةَ النقص الذي يخلّفها ضيقُ الشاعر بمحاولة الصياغة الماهرة للقصيدة، فهو يطلقُ العنانَ لسجيّته ليتنبّأ بما يعجزُ بأن يرشدَ إليه، وينشدُ بأن يكرّس ملكاً مثل رومولوس الذي ضمَّ حقولاً شاسعةً إلى روما، كمظهرٍ للزهو والتصوير الفنّي لمواهب المدينة وفتنتِها.

 

وفيما يأخذُ البعض على الشاعرِ تماديه في اللحن المونولوجي الخاص لقصائده، فقد يتسرّبُ إليه هذا الاحساسُ بأنّه ملزمٌ باستعراضِ الجزئياتِ البسيطة التي يستطيعُ أن يتخلّى عنه، وليس فقط الجزء الوظيفي فيها، فنراه يسهبُ ويكرّرُ ويثبتُ على هذا النحو في اللاشعور، مثلما جاء فيه في قصيدته «القلبُ والمطر»: «يا بيتي الصَّغير العذب، الأحمرَ مثل عذراء تتورَّد خجلاً وتحتجبُ في ثوبٍ من وريقات الشَّجر ممزَّقٍ هنا وهناك، ما ينفكُّ دمعٌ حزينٌ يتجمَّع في العين، والقلب ترجِّفه رياحٌ باردة كلَّما في البال مرَّت عتباتك المقفرة وحديقتك الصَّامتة، بتربتها التي لم تُعزَق منذ أمدٍ طويل، كأنَّها تربة لحدٍ للحدِ الذي يحتضن كلَّ أملٍ من آمالي العِذاب يا بيتي الأحمر الصَّغير الذي يغوي بألفِ سِحرٍ الذِّراعَ البضَّةَ للممرِّ المزهر في هذه السَّاعة التي تبدو لي خروجاً من الحياة ما عدتُ أراك أحمرَ، بل تبدو لي دمعة واهنة تنحدر على وجنتَيك المتَّقدتين شاحباً كما لو مِن ألمٍ لا حدود له».

 

هذا الالتصاقُ بالأرض، والجذور الواقعية، يخترقُه الخيالُ الجامحُ المعسكرُ في طيّاتِ الذاكرةِ التصويريّة، التي تشهدُ للموجودات كما تمدحُ الماورائيات، وتجمّدُ الروحَ على لوحةٍ للفلسفة الطبيعية التي جاءت في فكر أرسطو، وتسجّلُ الانخراطَ البديهي بين الشعر والفيزياء، فهو يجعلُ للممرّ ذراعاً وللبيتِ عذوبةً ودمعةً على خدَّيه، تميلُ إلى الشحوب، كأنّه يرمزُ إلى الحزن المتجمّد في الأغوار، يتسامى ويتمادى ليطالَ فضاءات الرحيل، فما عاد يصوّبُ سحرَه إلى جمال الفصول ورمزية المطر، بل يتجرّعُ الانتظار القاسي لتبدّل الأقدار، هو ينتقدُ وضعاً مزرياً من خلال تصبّب المطر، كما فعلت اديث سيتويل التي اتّخذت منه سيولاً تجرفُ الانهيارَ الداخليَّ في نفسها، وصنعت من إيقاعه لحناً مجازيّاً ثارَ على وضعها، فهي لم تلقَ القبول إلّا عندما صمّمت أن تخوض معركة الأمطار في قصائدها، وفرضت شعرَها من خلال معارك صامتة خاضتها مع قلمها. هكذا يبني كوراتسيني صومعته على خصوصيّة الصوت الداخلي، ويهمّشُ البناءَ التركيبي لتناسق القصيدة، ليحدثَ تأثيراتٍ انفعاليّة يعيشها لدى المتلقّي ويزجّهُ في عالمه الصاخب والمتّقد بالمشاعل الدراماتيكيّة، وكأنّ عمليّةَ الجذب تتوحّدُ في إطارٍ مثيرٍ وهادئ.

 

لقد حاربَ كوراتسيني الوحدةَ من خلالِ التأمّل، ولكنّه عشقها أيضاَ، فأضفى خيالاته التي تقاربُ الجنونَ في نظر القارئ العادي، ولكنّها تعادلُ الابداعَ في لغةِ الشعراء، ونفذ منها إلى السطوع المتضافر مع الفن، فهو يملأُ القصيدةَ بزخارف فنيّة متناسقة ومتنافرة في الحين نفسه، في مضامينَ تعبيريّةٍ حادّةٍ نوعاً ما، ويدخلُ عليها المتعة الحسيّة في الشعور لما يحيط به من الكائنات، ويوضّح فلسفته الغائيّة من خلال الاعتراض على واقعه والميل نحو التغيير.

 

هو قلقٌ وجوديٌّ يتمثّلُ في التخيّل الحميم في فكر كوراتسيني. فهو يسافرُ في عالمٍ متنافر الملامح، يمثّلُ لوحةً تشكيليّةً من النحت الغائر، المهيب الطلعة، يشعرُ بالانطلاق ثمّ يلوذُ بالعزلة، ويرسمُ الفرح ولكنّه يفحمه بالحزن المرير، ويضعُ مفردات الطبيعة على شكلِ زينةٍ دائريّةٍ تبهرُ البصر، ولكنّه لا يلبثُ أن يزيلَ آثارها باجتذاب العواصف والطلّة الحزينة للمطر، هو ذائبٌ في كيانه إلى حدّ مزجه مع وجوديّة الطبيعة وكأنّها تتنمّرُ عليه وتحاربه بالرغم من ولهه بها، وهذا ما يجعلُ من كيانه متفكّكاً ومأسوراً في التخبّط العشوائي للكلمة.

 

وقد نجح كوراتسيني في تحريف الطبيعة لخدمة قصيدته، فهو يشبهُ الرسّامُ الذي يصنعُ من لحظاتِ الرؤية من خلال اللون والخط تجسيداً انسانيّاً يعكسُ الارتيابَ النفسي في الاشباع الروحي، ويختزنُ التشبيهات والمقارنات ليوضّحَ المعنى، ولأنّه لا يملكُ من حريّة السرد في ومض القصيدة، فهو يتناولُ شتّى المكوّنات لسرد قصّةٍ وجيزة، ولكنّه لا يستطيعُ أن يستعرضها دون تجاوزات واستنكارات تعلو في وجهه.

 

كان كوراتسيني شاعراً تطبيقيّاً، إذ ينقلُ الصورة كما يراها، وليس كما يحسّها فقط، ولهذا جاءت قصائدهُ على هيئة احتكاك مع الخارج، في تشكيل عمله الخاص، وقد عبّرَ عن هذا في قصيدته «سوناتة الخريف» وقال: «أوراقٌ وآمالٌ بلا هدنة، أوراقٌ وآمال؛ أتُراها لا تمتلك أغصاناً وقلوباً حتَّى تسقط معاً فيحصدها خريفٌ حزينٌ عن الأرضِ كأنَّها أوَّل الذَّهب؟».

الأكثر قراءة