دعوة للذاكرة قبل الخامس من أيلول
خديجة رياض حكيم

خبيرة قانونية في الشأن الدولي والبترولي

Thursday, 04-Sep-2025 07:11

في زمنٍ صار فيه كل شيء مشوّشاً، الكلمات بلا روح، والشعارات بلا صدق، والمواقف بلا منطق، لا يبقى أمامنا سوى أن نفتح دفاتر ذاكرتنا. فالذاكرة ليست ماضياً نرثيه، ولا صُوَراً عتيقة نعلّقها على الجدران، بل هي قلبنا الذي ما زال ينزف، جرحنا الذي يذكّرنا بأنّنا لم نتعلّم بعد. إنّها الصَوت الأخير حين تسقط الأصوات، والصرخة الوحيدة حين يغرق كل شيء في الصمت.

لقد مررنا من قبل في أنفاق العتمة... أنفاق طويلة وموحشة، عرفنا فيها كيف يبتلعنا الغموض، وكيف تتحوّل المصالح الضيّقة جدراناً صمّاء تقطع أواصر الأخوة وتحوّل الأصدقاء خصوماً.

 

مررنا بجوعٍ جعل الخبز أسمى من الذهب، ورأينا أطفالاً ينامون على وسادة خاوية، وأمّهات يقسمنَ رغيفاً واحداً بين عشرة أفواه جائعة. رأينا بيوتاً تُهدم أمام أعيننا وتتحوّل قصصاً مروية بالدمع، ورأينا قرى تمحى من الذاكرة بالحرب والنسيان.

 

لقد بكَينا حتى جفّت المآقي. دموعنا لم تكن ضعفاً، بل كانت أغنيات صدحت بها الحناجر لتحفظ الأمل وسط الركام. آلامنا لم تكن عابرة، بل تحوّلت أمثالاً تختصر حكمة البقاء: «اشتدّّي يا أزمة تنفرجي». لم يكن ذلك تراثاً جميلاً ولا مشهداً فولكلورياً، بل كان ثمناً دفعناه بدمنا ودمعنا وكرامتنا، لنتعلّم... ومع ذلك لم نتعلّم.

 

ما زلنا إلى اليوم ندور في الأنفاق نفسها. أسماء جديدة، وجوه مختلفة، شعارات أخرى، لكنّ الجدران هي الجدران، والظلام هو الظلام. ما زالت المصالح الضيّقة تخنق الوطن، وما زال العجز يقتل الأمل، وما زال النسيان يجرّنا مجدّداً إلى الحفرة نفسها.

 

نكتب اليوم، لا لنسجّل سطراً في الصحف، بل لنطلق صرخة قبل أن يبتلعنا النسيان. صرخة للذاكرة قبل الخامس من أيلول. لسنا ندعو إلى الاصطفاف في طابورٍ من الطوابير، ولسنا طابوراً خامساً يتآمر من خلف الأبواب. نحن أبناء هذا الوطن، وهذا الوطن وحده هو انتماؤنا. ندعو أن نتوقف لحظة، أن نرجع إلى الوراء لا لنجترّ المآسي، بل لننظر إليها جيداً، نأخذ منها الدرس، ثم نمضي إلى الأمام.

 

قبل الحوار، فلنصغِ إلى الذاكرة. قبل النقاش، فلنستحضر التجارب. قبل القرار، فلنستوعب الأثمان التي دفعناها.

 

لبنان لا يحفظه مال يتبخّر في المصارف، ولا شعارات تُلقى في الميكروفونات ثم تُدفن مع صدى الصوت، ولا قوى تتناحر على فتات سلطة فيما ينزف الوطن، ولا سلاح يُوجَّه إلى صدور أبنائه. لبنان يحفظه وعي أبنائه وذاكرة جماعته. ذاكرة الذين عرفوا أنّ الحرب لا تُبقي أحداً، أنّ الانقسام لا يُنجِب إلّا الخراب، أنّ مَن يتناسى الماضي يفتح أبواب الجحيم بيدَيه.

 

الأوطان لا تموت حين تنهزم في معركة، ولا حين تنهار عملتها، ولا حين يهاجر شبابها. الأوطان تموت فقط حين تنسى نفسها. وحين تُنسى الذاكرة، يُنسى الوطن، ويصير بلا ملامح، بلا هوية، بلا وجه.

 

فلتكن جلسة الخامس من أيلول موعداً مع الذاكرة قبل أن تكون موعداً مع القرار. فلنرفع الوطن فوق المصالح الضيّقة، ولنضع وحدة أبنائه فوق كل اعتبار. لنجعل من هذه الجلسة فرصة لا لتقسيمٍ جديد، بل لالتقاء على عتبة الذاكرة التي لا تخون.

 

دعوة للذاكرة... قبل الخامس من أيلول.

دعوة للذاكرة... لأنّنا إن نسينا، لن يبقى لنا وطن.

 

دعوة للذاكرة... لأنّها صدى الأرواح التي خمدت تحت الركام ترجونا أن نتعلّم، وحقّ الأجيال أن لا تُولد في الجحيم نفسه.

الأكثر قراءة