العلاقات الطفَيلية والهوَس في عصر وسائل التواصل الاجتماعي تأخذ منحى شرساً في فيلم إثارة مشدود بإحكام، هو العمل الأول لمخرجه.
نادراً ما تصادف شخصاً يبعث على الاضطراب بشكل مبهم مثل ماثيو (تيودور بيليرين)، الذي يبدو للوهلة الأولى مجرّد موظف عادي في متجر فاخر في لوس أنجلوس يقصده مشاهير هذا الجيل.
وجهه الزاوي في حالة السكون يبدو فارغاً وحذراً في آنٍ، وكأنّه يختبئ خلف عظام وجنتَيه. عندما يبتسم، تتحوّل ابتسامته إلى قناع مشدود ومخيف. وعندما يقترب من شيء يُريده، يتغيّر وضعه ليصبح أقرب إلى طائر متحفّز، متوتّر، على أهبة الانقضاض، وعَيناه مثبتتان على هدف رغبته. يمكن القول إنّ «الهالة» التي يبثها ماثيو سيّئة للغاية.
ما يُريده ماثيو في هذه الحالة هو أوليفر (آرشي مادكوي)، نجم بوب موهوب يحمل اسماً واحداً فقط، يتمتع بطبع سلس وبصحبة أصدقاء وَدودين يلازمونه دوماً. يعيشون في منزله، ويقضون الوقت خلف الكواليس في حفلاته، ويتناولون التاكو على أريكته، بينما تتولّى شايا (الصلبة هافانا روز ليو) متابعة أعماله.
أوليفر يضمر طموحات فنية رفيعة، لكنّه حالياً ما زال يؤدّي موسيقى نمطية تلائم جمهوره. ماثيو يعرف تماماً نوع الموسيقى التي يفضّلها أوليفر وعندما يلمحه في المتجر يسارع لتغيير الموسيقى في الخلفية. وعندما يلاحظ أوليفر، يتظاهر ماثيو باللامبالاة، وكأنّه لم يسمع من قبل بأوليفر أو موسيقاه. وفعلاً ينجح الأمر: إذ يحصل على دعوة للذهاب خلف الكواليس في حفل أوليفر التالي.
«لركر» فيلم صغير، محكم وشرير، يُشكّل بداية واعدة للمخرج والكاتب أليكس راسل، وهو بمثابة توازن حداثي ومُقَلِّص أمام الإسراف البصري المفرط في فيلم Saltburn.
في القصة ملامح من توم ريبلي، وأصداء لأفلام إثارة نفسية أخرى عن الهوس، لكن بنكهة محدّثة لعصر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد ذكّرني بالكوميديا السوداء «إنغريد تذهب إلى الغرب» الصادرة عام 2017. الفيلم يتباطأ في بدايته، لكنّه عندما ينطلق فعلياً يصبح متعرّجاً ومربكاً وذكياً. يغرس خطافه في أعماق هشاشة بطليه الرئيسيِّين، ومع كل مشهد يشدّ أكثر، كاشفاً كيف أنّ صناعة الشهرة والحفاظ عليها في هذا العصر الثقافي يحوّل الجميع إلى حطام قَلِق يحتاج إلى التثبيت.
تحصل على الشهرة بالاقتراب من شخص مشهور، أو بالتصرّف وكأنّك مشهور، وبمجرّد أن تنال الشهرة لا سبيل لمعرفة كيفية الحفاظ عليها. ماثيو وأوليفر كليهما عالق في هذا الدوامة، لكن من اتجاهَين متعاكسَين.
يعتمد الفيلم منظور ماثيو، وهذا لا يعني أنّه يقف في صفه. كما في «ريبلي» أو Saltburn، نحن نتلصّص على عالم الفتى الذهبي من خلال عيون شخص يُريده، أو يُريد أن يكونه، أو شيئاً آخر لا يمكن التعبير عنه بدقة: حُبّ؟ هوَس؟ إنّها وضعية محرجة، لأنّ ماثيو هو بالضبط النموذج الذي لا يريد أحد أن يكونه، لكنّه يخشى في سرّه أنّه يشبهه - المتطفل، الشخص الذي يتهامس عنه الآخرون. جميع من في دائرة أوليفر يرون مدى غرابة ماثيو، باستثناء أوليفر نفسه، الذي لا يُعميه البريق بقدر ما هو مجرّد غافل، وربما في حاجة ماسّة لدرجة أنّه يستمتع بصحبة شخص جديد وإعجابه المفرط. انحرافات ماثيو النفسية واضحة لنا منذ البداية، لكنّه بارع في إخفائها عن أوليفر أو عن أي شخص آخر ربما يكون مهووساً به. لا نعرف الكثير عن ماضيه، لكنّ تاريخه ليس صعب التخمين.
في أحد المشاهد المبكرة، يصدر هاتفه تنبيهاً بأنّ أوليفر تبعه على «إنستغرام». ملامح الذهول على وجهه - تليها فرحة صريحة مع توالي الإشعارات - تكفي لتخبرك بكل ما تحتاج لمعرفته تقريباً.
هناك قدر كبير من التوتر في «لركر»، لكنّه متركّز بالكامل في أداء بيليرين، الذي يتقلّب ببراعة بين الشفقة والخطر والبؤس والإزعاج؛ وكأنّه يتقمّص أشكالاً مختلفة داخل جلده. غالباً ما ينقل أفكار ماثيو بعينَيه، لكن أحياناً لا يظهر سوى أنّه يُفكّر، ولا ندرك إلّا بعد لحظة، وبالرعب، ما الذي كان يُفكّر فيه.
في المقابل، يذوي ثقة مادكوي وسحره الطفولي إلى شك واضطراب. وعندما ينحرف الفيلم في نهايته بشكل جانبي مفاجئ، تبدأ برؤية ما كان يفعله طوال الوقت. راسل ومدير تصويره، بات سكولا، اختارا تصوير الفيلم على خامة 16 ملم، لإبراز مظهر حُبّي ويدوي. هذا يجعلك أكثر وعياً بفعل التحديق، وهو ما يغذي السرد الأشمل. يشعر ماثيو أول مرّة أنّه أصبح جزءاً من طاقم أوليفر عندما يُطلب منه تصوير لقطات B-roll لفيلم وثائقي محتمل عن حياة المغني، باستخدام كاميرا فيديو قديمة، وهو أمر يُثير شكوك المصور الحقيقي نوح (دانيال زولغادري)، الذي يستخدم معدات أكثر تطوّراً ويدرك ما يفعله.
وكلّما توغل ماثيو أكثر في عالم أوليفر، وجد نفسه أكثر عرضة لنظرات الآخرين، إذ يُرصد في الشارع بوصفه «ذلك الرجل من إنستغرام أوليفر»، في صور صغيرة ملتقطة بآيفون، توحي بأنّه، هو الآخر، لا بُدّ أن يكون غنياً ومشهوراً. الجميع يراقبون من خلال عدسات الكاميرات، ولا شيء يبدو كما هو.
ستلاحظ أنّ الفيلم اسمه Lurker وليس Stalker. بعض السلوكيات التي كانت ستبدو شديدة الرفض في الماضي - مثل تصفّح مئات الصور من لحظات شبه خاصة لشخص غريب، معرفة أطعمتهم المفضلة، أو ماركات ملابسهم وموسيقاهم - لم تعُد مستغربة اليوم.
يمكننا التسلل إلى حياة الآخرين؛ نصنع علاقات طفيلية كاملة مع أشخاص لن يعرفوا أسماءنا أبداً. وربما لا يفعل ماثيو سوى تجسيد تلك الخيالات التي تراود المعجبين باستمرار: أنّنا نعرف، أفضل من الفنانين أنفسهم الذين نزعم أنّنا نحبّهم، ما هو الأنسب لحياتهم وعلاقاتهم وفنهم. فنحن نراقبهم عن كثب، في النهاية. نحن مَن نحبّهم.