هل تقدّمت روسيا؟ الأوكرانيون يتحققون عبر خريطة إلكترونية
كونستانت ميهو وأولها كونوفالوفا- نيويورك تايمز
Saturday, 23-Aug-2025 07:20

الخريطة الإلكترونية DeepState، المبنية على لقطات قتالية محدّدة جغرافياً وعلى معلومات من مصادر داخل الجيش الأوكراني، تحصد 900 ألف مشاهدة يومياً وتعمل كوسيلة موازنة لتجاوزات الجيش أو إغفالاته.

مطلع آب، انتشرت شائعات عن اختراق القوات الروسية للخطوط الدفاعية الأوكرانية على طول قطاع حاسم من الجبهة الشرقية. تحدّث جنود عن تسلّلات ليلية، وإطلاق نار متقطّع في المسافات البعيدة، واشتباكات قرب قرى كانت تُعتبَر آمنة.

 

سرعان ما وصلت الشائعات إلى رسلان ميكولا ورومان بوهوريلي، المؤسسَين الأوكرانيَّين لـ«ديب ستايت»، المجموعة التي تقف وراء ما أصبح الخريطة الإلكترونية المرجعية لتتبّع تحرّكات ساحة المعركة. وبعد يوم كامل من البحث والتدقيق، أكّد الرجلان أنّ الاختراق كان حقيقياً، بل أسوأ ممّا اعتُقد بدايةً، إذ تقدّمت القوات الروسية بنحو 10 أميال إلى الأمام.

 

وأقرّ بوهوريلي: «كانت هناك مشكلة كبيرة جداً»، لأنّ دفاعات أوكرانيا في المنطقة كانت مهدّدة بالانهيار. كان الرجلان يعلمان أنّ تحديث الخريطة ليُظهر التقدّم الروسي سيكون خطوة متفجّرة سياسياً. فمع ارتفاع حرارة المفاوضات حول محادثات السلام، كان نشر الاختراق يُعرِّض موقف أوكرانيا للضعف في المفاوضات. وفي الوقت عينه، كان ذلك قد يُجبر القيادة العسكرية العليا في كييف، التي كانت حتى ذلك الحين متحفّظة بشأن التقدّم الروسي وبطيئة في إدراك خطورته، على التحرّك بشكل حاسم.

 

في مساء 11 آب، حدّثا الخريطة ونشرا رسالة مطوّلة على وسائل التواصل الاجتماعي لشرح الوضع «الفوضوي إلى حدٍّ كبير». انتشرت صور للخريطة تظهر توغّلَين روسيَّين طويلَين يُشبهان «أذنَي الأرنب» كالنار في الهشيم في أوكرانيا، وسرعان ما نشرت القيادة العسكرية، بعد أن قلّلت في البداية من أهمية تقييم «ديب ستايت»، قوات نخبة لاحتواء الإختراق.

 

ابتسم بوهوريلي (26 عاماً)، قائلاً: «لقد جذب الأمر الكثير من الانتباه». تكشف إفصاحات «ديب ستايت» بشأن التقدّم الروسي مدى الأهمية المركزية التي باتت خريطتها تحتلها في أوكرانيا بعد 3 سنوات ونصف من الحرب. فالخريطة تحصد نحو 900 ألف مشاهدة يومياً في المتوسط. ومن بين مستخدميها: مدنيّون يعيشون قرب الجبهة يحاولون معرفة ما إذا كانت القوات الروسية تقترب؛ خبراء عسكريّون وصحافيّون يتتبّعون تغيّر خطوط القتال؛ متطوّعون إنسانيّون يُنظّمون خطط الإجلاء؛ وحتى جنود يحاولون تبديد ضباب الحرب.

 

وأوضح روب لي، الخبير العسكري في معهد أبحاث السياسة الخارجية: «إنّها الخريطة المرجعية في أوكرانيا. أنا نفسي أتابعها بانتظام».

 

إنّ شعبية «ديب ستايت» تُظهر كيف تُعيد التكنولوجيا تشكيل الطريقة التي تُسرَد بها الحرب. فالمقاطع القتالية الموثقة جغرافياً، ويبثها الجنود عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت مصدراً رئيساً لرسم الخرائط، في حين أنّ الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، المتاح حتى في أكثر النقاط الأمامية سخونة، يُتيح للجنود إرسال معلومات عن الاختراقات بشكل شبه فوري. ففي حين كان يستغرق وصول تقارير الجيش أو برقيات الصحافيِّين إلى الجمهور أياماً قبل عقود، بات الأوكرانيّون اليوم يتحققون من «ديب ستايت» فور استيقاظهم من النوم.

 

لكنّ الحضور البارز للخريطة وضع مبتكريها في مرمى دعاية الحرب. بعض القادة الأوكرانيِّين، القلقين من الانتقام من رؤسائهم، ضغطوا على «ديب ستايت» لعدم إظهار المواقع المفقودة.

 

ويوضح بوهوريلي، أنّ الحفاظ على الاستقلالية، بالتالي على المصداقية، في مثل هذا المناخ المليء بالتوتر أمر «صعب للغاية». لم تكن المخاوف واردة أصلاً في ذهن بوهوريلي حين أطلق مع ميكولا مشروع «ديب ستايت» عام 2020. حينها كان مجرّد هواية، قناة على «تلغرام»، حيث شارك صديقا الطفولة (أحدهما طالب حقوق والآخر يعمل في التسويق) أخباراً عن شؤون العالم. واختارا اسم «ديب ستايت» لإضفاء جَوّ من الغموض على المشروع. لكن مع حشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية عام 2021، تحوّلا إلى مراقبة التصعيد. ووَصفت موسكو ذلك بأنّه «مناورة»، وأعلنت لاحقاً الانسحاب. لكنّ صُوَر الأقمار الصناعية والفيديوهات التي دقق فيها الصديقان روَت قصة مختلفة: فقد تُركت معدّات خلفها، ما دلّ إلى أنّ القوات ستعود.

 

في أوائل 2022، ومع تزايد الأدلة على غزو وشيك، استعانا بأشخاص للمساعدة في أبحاث المصادر المفتوحة واستعدّا للأسوأ. وفي اليوم الأول من الغزو الروسي، أطلقا الخريطة. أكثر من 100 متطوّع/موظف يعملون في «ديب ستايت» لتحديث الخريطة يومياً، مع تمويل العملية بالكامل عبر التبرّعات.

 

ومع استمرار الحرب، باتت مقاطع الفيديو التي يُحلّلها الفريق أقل مَوثوقية، مع استغلال كلا الطرفَين للصور في الدعاية. وأشار ميكولا إلى أمثلة لجنود روس يُصوّرون وهم يرفَعون علماً في قرية للإيحاء بأنّهم سيطروا عليها، لكنّهم قُتلوا بعد ذلك في هجمات مضادة أوكرانية.

 

لتغطية هذه الفجوات، تتحقق «ديب ستايت» من المعلومات مع جنود أوكرانيِّين على الأرض. وأقرّ ميكولا (30 عاماً): «نعرف الكثير من الأشخاص على الخطوط الأمامية، في وحدات عسكرية مختلفة»، مضيفاً أنّ هذه المصادر تُعدّ بالمئات. وأوضح أنّ الفريق لا يتسرّع في نشر التحديثات، بل ينتظر حتى يثق تماماً في المعلومات، لكنّه اعترف بأنّ الأخطاء تحدث أحياناً.

 

وأشار لي، الخبير العسكري، إلى أنّ الطائرات المسيّرة المنتشرة على الجبهة وتستهدف أي تحرّك، خلقت مناطق واسعة محظورة، ما جعل صورة السيطرة على الأرض أكثر ضبابية. وفي مثل هذا المناخ، أضاف أنّ أسلوب «ديب ستايت» القائم على الجمع بين مقاطع الفيديو المحدّدة جغرافياً والتحقق من مصادر بشرية «يُعطي فكرة أوضح عن مدى دقة تصوير الأحداث».

 

باتت «ديب ستايت» موثوقة إلى درجة أنّ المدنيِّين القاطنين قرب الجبهة يستخدمونها لتقدير مستوى الخطر. فإذا كانت خطوط القتال على بُعد 15 ميلاً، فهم بمنأى نسبي عن المسيّرات التي تغطي ساحة المعركة، لكنّهم ليسوا محميِّين من القنابل الروسية الموجّهة (CAP)، التي يمكن أن تصل إلى مدى أبعد بكثير.

 

في وقت سابق من هذا العام، جلس فولوديمير زرازيفسكي، رئيس بلدية ميجوفا، وهي بلدة صغيرة قرب الجبهة الشرقية، منحنِياً على طاولة مكتبه يدرس خريطة مطبوعة من «ديب ستايت». ووضع دوائر على الخريطة لتحديد ما إذا كانت بلدته تقع ضمن مدى القنابل الروسية.

 

وكشف في شباط: «أولاً، نتحقّق من «ديب ستايت». ثانياً، نقيس خطر ضربة كاب على بلدتنا». ومنذ ذلك الحين، اقترب الروس من ميجوفا، وبدأ السكان في الإجلاء. ربما كان أكثر المستخدمين غير المتوقعين لخريطة «ديب ستايت» هم الجنود الأوكرانيّون أنفسهم. يمتلك الجيش الأوكراني خريطة داخلية خاصة بساحة المعركة تُعرف باسم «دلتا». لكنّ الجنود يعترفون أنّ الوحدات أحياناً لا تُبلِّغ عن خسائرها الميدانية لتجنّب اللَوم، ما يجعل خريطة «دلتا» غير مكتملة. واعترف الجنرال أولكسندر سيرسكي، القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية، في مقابلة حديثة مع RBC-Ukraine، بأنّ «ديب ستايت» توفّر رؤية مكمّلة أساسية: «إنّها مصدر معلومات يساعد كثيراً في الحصول على بيانات حول خطر فقدان موقع ما».

 

كانت تصريحاته، التي جاءت بعدما كشفت «ديب ستايت» عن الاختراق الروسي في منطقة دونيتسك الشرقية قرب مدينة دوبروبيليا، اعترافاً رسمياً نادراً بقيمة الخريطة. وغالباً ما تعارض القيادة الأوكرانية تحديثات الخريطة التي تُظهر تقدّماً روسياً في مناطق حساسة سياسياً.

 

ويؤكّد ميكولا أنّ «ديب ستايت» تعمل كوسيلة موازنة لتجاوزات الجيش أو تلاعبه. وبحسب رأيه، لولا تنبيهها عن الاختراق قرب دوبروبيليا، لما وصلت التعزيزات العسكرية في الوقت المناسب، ما كان قد يؤدّي إلى «كارثة».

 

بدورهم، يؤيّد الجنود هذا الدور كآلية تدقيق ومحاسبة، بحسب فيتالي بيازيتسكي، الرقيب الأول في اللواء الأوكراني الـ93: «لأنّ هناك بالفعل مشاكل في التقارير عن الوضع الحقيقي في مناطق مسؤولية بعض الوحدات».

 

ويُشدّد بوهوريلي: «سلامة جيشنا تأتي أولاً»، مؤكّداً أنّ مجموعته تشارك الجيش الهدف نفسه: الفوز في الحرب.

الأكثر قراءة