في واحدة من أكثر الحلبات شُهرةً وتحدّياً، بدا أنّ موهبة السائقين علِقت موقتاً خلف جدار المطر والضباب. فسباق جائزة بلجيكا الكبرى 2025 لم يبدأ كما اعتدناه، بل تأخّر لأكثر من ساعة و20 دقيقة بفعل أمطار لا ترحم ورؤية أقرب إلى العدم. ولـ4 لفات، اكتفت السيارات بالزحف خلف سيارة الأمان، وكأنّ أصوات الرعد قرّرت أن تُخرس أصوات المحرّكات موقتاً. لكن مع بداية اللفة الخامسة، انكشف الستار أخيراً عن ساحة سباق صافية نسبياً، لتتحوّل حلبة Spa‑Francorchamps إلى اختبار دقيق بين مَن يملك الجرأة، ومَن يعرف متى يُظهرها.
الرعد لا يُخفي الموهبة، بل يكشفها
على رغم من الأمطار الغزيرة والرؤية القريبة من الصفر، حافظت الحلبة على تقاليدها في صناعة الفارق. وتحت وطأة الغيوم والرعد والضباب، تحوّلت الحلبة الأيقونية إلى امتحان صارم للسائقين، كشف الكثير عن معدن الفرق، وتحديداً عن الذين يعرفون كيف يُحوّلون الظروف القاسية إلى فرص حقيقية.
بياستري يقود العاصفة
في الأجواء المشحونة، برز فريق ماكلارين كخصم لا يُستهان به، وكأنّه حوّل العاصفة إلى سرّ من أسرار السرعة. فخطف أوسكار بياستري الأضواء بانتصار درامي، إثر مناورة حاسمة عند منعطف Eau Rouge واندفاعة مذهلة على Kemmel Straight، ليقتنص فوزه الثامن هذا الموسم بفارق 3.415 ثوانٍ عن زميله لاندو نوريس. بهذا الانتصار، وسّع بياستري صدارته في ترتيب السائقين إلى 16 نقطة، مؤكّداً أنّ ثنائية ماكلارين لم تَعُد مجرّد مفاجأة موسمية، بل تهديد حقيقي على عرش البطولة.
الامتحان ليس للسائق وموهبته فحسب
سيارة ماكلارين أثبتت أنّها من بين الأكثر توازناً في الظروف المختلطة، خصوصاً على حلبة تتطلّب ثباتاً على السرعات العالية مثل Kemmel Straight وقدرة تحكّم دقيقة في المنعطفات السريعة مثل Pouhon وBlanchimont. كانت التطويرات الهوائية التي أُدخلت على الجناح الخلفي والديناميكا الأرضية، حاسمة، إذ منحت السائقين الجرأة للضغط أكثر، حتى في الحلبة الرطبة.
لم تكن ماكلارين فقط تواكب الريادة، بل تصنعها. السيارة لم تخذل بياستري ونوريس، بل مكّنتهما من الصمود أمام فيراري المتخبّطة ورد بول غير المتوازنة، وصولاً إلى منصة التتويج التي كادت أن تكون مزدوجة لولا بعض الفروقات الاستراتيجية.
باختصار، السيارة كانت سريعة بما يكفي، لكنّ الأهم من ذلك، كانت ذكية ومستقرة، وهذا تماماً ما تحتاجه للفوز في حلبة لا ترحم مثل سبا.
نوريس... عزيمة حتى النهاية
انطلق نوريس من الصدارة، يقود بطاقة الفوز الثالث على التوالي، وفي واحدة من أصعب الحلبات على الروزنامة. كانت بدايته مثالية، سيطر على اللفات الأولى بثقة، وتفوّق في كل نقطة كبح ومنعطف، قبل أن تتغيّر المعادلة تدريجاً مع تغيّر الظروف والمسارات.
في المراحل الحاسمة من السباق، وجد نوريس نفسه في مواجهة غير متوقعة مع بياستري، الذي استفاد من استراتيجية مختلفة وإطارات أكثر استقراراً.
أمام سرعة الأسترالي، اضطر نوريس للضغط بقوّة في اللفات الأخيرة، في محاولة يائسة لاستعادة الصدارة التي خسرها في منتصف السباق.
اعترف نوريس بعد نهاية السباق بأنّ بياستري كان ببساطة «أفضل»، موضّحاً أنّ الإطارات الناعمة التي اختارها في القسم الأخير من السباق لم تمنحه الثبات الكافي في مناطق مثل La Source، حيث عانى من تدهور في الجَرّة الحركيّة، ممّا كلّفه ثواني ثمينة لم يُعوِّضها على رغم من عزيمته وإصراره حتى خط النهاية.
لوكلير نجمة في سماء فيراري
وسط موسم يُعتبر حتى الآن مُخيِّباً لعشاق الحصان الأحمر، يواصل تشارلز لوكلير تقديم الأداء الذي يُبقي اسم فيراري حاضراً في مشهد النخبة. في سباقٍ اختلطت فيه العوامل المناخية مع حسابات الإطارات والتوقيت، فاقتنص المركز الثالث، مكرّساً نفسه كأكثر عنصر متماسك داخل الفريق الإيطالي.
كانت معركته مع ماكس فيرستابن عنواناً فرعياً للسباق، اشتباك نظيف وحاسم كشف مدى إصرار لوكلير على عدم الاستسلام، حتى عندما لا تكون السيارة في أفضل حالاتها. المركز الثالث لم يكن مجرّد إنجاز رقمي، بل دفعة معنوية وسط ضياع الهوية الذي يمرّ فيه الفريق الأحمر. في وقتٍ تتراجع فيه صورة فيراري على أرض الواقع، يلمع اسم لوكلير كنجمة وحيدة تُذكّر بتاريخ الفريق العريق... وبأنّ الأمل لا يزال موجوداً.
فيرستابن... سقوط الرمزية تحت المطر
دخل فيرستابن سبا متسلّحاً بانتصار في سباق السرعة السبت، لكنّ الرياح تغيّرت بسرعة مع بداية سباق الأحد. بدا واضحاً أنّ السيارة لم تتجاوب مع تغيّرات الطقس كما يجب، ومع رحيل كريستيان هورنر، بدا أنّ التوازن الذي اعتدناه في رد بول بدأ يتزعزع. على رغم من تمتّعه بسرعة قصوى ملحوظة على الخطوط المستقيمة، إلّا أنّ فيرستابن عانى في المناطق التقنية من الحلبة، وتحديداً مع الإطارات التي لم تمنحه الثبات المطلوب في المراحل الحاسمة. مركزٌ رابع ليس كارثياً، لكنّه بالتأكيد لا يُشبه بطل العالم الذي اعتدنا على رؤيته في الطليعة. كشفت سبا هذه المرّة أنّ الهيمنة ليست أبدية، وأنّ الغيوم لا تحجب الشمس فقط، بل قد تُبلِّل الكبرياء أيضاً.
هاميلتون.. قصّة النهوض من الحفرة
من المركز الـ18، عادةً ما تكون الحكاية مكتوبة سلفاً، لكنّ لويس هاميلتون لا يؤمن بالسيناريوهات الجاهزة. فعلى رغم من العقوبة التي أجبرته على الانطلاق من الصفوف الخلفية بسبب تغييرات فنية، قرأ البريطاني السباق بذكاء.
قراره المبكر بالتحوّل إلى إطارات الـ Slick أثبت فعاليّته، وسمح له بشق طريقه بثبات في حلبة تُعاقب كل خطأ. تجاوز منافسيه واحداً تلو الآخر، ومن ضمنهم سيارات فيراري وألبين، وصولاً إلى المركز السابع عند خط النهاية. الأداء لم يكن خرافياً، لكنّه كان محكَماً وهادئاً. تكتيكي بامتياز. منحته الجماهير عن جدارة تصويت «سائق اليوم»، وكأنّهم يردّون الجميل لسائق لا يزال يجيد النهوض، مهما تعثّرت خطواته في البداية.