لبنان على المفترق او الامام موسى الصدر
خليل حمدان
Friday, 25-Jul-2025 07:21

طوت المطابع الكثير من الكتب وصفحاتها بسيل هادر من حبر الحقيقة في محاولة لرسم معالم مسيرة ومسار الامام المغيب السيد موسى الصدر وأظن اننا ما زلنا في الخطوة الأولى من رحلة الألف ميل، ومواكبة الكبار محنة على الباحث، كيف وما زلنا نقف على شاطىء انجازاته التي رسمها بريشة فنان مبدع. فالأحاطة بالمحيط ضرب من الخيال والموضوعية مرهونة بتتبع الأثر.

هي سيرته المحمولة على وقت بذره على درب المحرومين حتى بات علامة فارقة على مساحة العالم، ومن يجرؤ ان يخط بيمنه، الى هنا وقف القلم؛ وأروع من عبر عن ملامح صورة الامام الشاعر والمحامي الراحل نجيب جمال الدين المسكون اعجاباً ومحبة ورقة بالامام السيد موسى الصدر حتى قال فيه:

وأحارُ من اي الجوانبِ ارتقي

لا طالَ بعضَ شوامخِ البنيانِ

لا يسألُ الريحان عن كبِّ الشذا

كبُّ الشذا بشمائل الريحانِ

للعبقري مزاج وتكوين ينفرد بهما عن سائر اصحاب التوازي، ترى اليه قبل ان تسمع الى عقله، ان هذا الانسان هو غير الشائع المألوف والمتشابه المعروف، فالضوء المشتعل في الجبهة ينبئك عن الفكر المتوهج في الداخل قبل ان يحملك الشعاع الى مساقط النور حيث المجهول ينكشف والمغلق ينفتح والقامة النخلة والكتفان الصامدان يشعرانك القدرة على تحمل المسؤولية قبل ان تعرف ان السيد يتحمل ما ينوء به الجبل.

يقول الشاعر والاديب جمال الدين:

"الكفان يقلبهما في الحديث ويبسطهما حيالك كأنهما يقولان السيد يعطي كل ما يملك فلا تخف يصافحك وكأن قلبه في كفه".

لقد قرأت ملياً لنجيب جمال الدين ومبكراً أرّخ اوراق كتابه الشيعة على المفترق او موسى الصدر وكان ذلك عام 1967 .

واليوم استميح شاعرنا الكبير ان استعير بعضاً من كلامه، مع بقاء الأثر الطيب لنحمل مع الأثير عنواناً آخر لزمن آخر، رغم ألم البعاد بفعل الأخفاء لأقول: لبنان على المفترق او موسى الصدر..

مرّت سنون ثقال على إخفاء الإمام القائد السّيّد موسى الصّدر وأخويه سماحة الشّيخ محمّد يعقوب والصّحافيّ السّيّد عبّاس بدر الدّين، وغاب الطّاغية القذّافي يحمل أوزارًا وفي سجّله الأسود مجازر ومقابر وسجون ومنافٍ وارتكابات باتت المكوّن الشّخصيّ وسمة من سمات الجبابرة على ذمّتهم. ارتكابات محسوسة وملموسة عدّها رجالات القانون ورواد العدالة انها جرائم متمادية في الزمن للأثر البالغ بحقّ الإنسانيّة رغم تزاحم الأيام إذ خلّف القذافي تشوّهات بنيويّة على أكثر من صعيد. وأزمات اجتماعية ونفسيّة مستدامة بعد بثّ منظومة من الأضاليل الجماهيرية لشعب باتت الحرّيّة رهينة السّجون والسّعادة كادت أن تقدّم طلبًا الى قائمة المستحيلات.

وتأتي الذكرى السنوية السابعة والأربعون لتغييب الإمام وأخويه والسجن، والسجان أعجز من تقييد العطاء أو حبس الضّياء، والإمام الصدر يستمرّ برفدنا بضياء علمه وتوهّج معرفته واستقامة مساره ومسراه عاملاً فينا بتحرير الوعي متصديا لقصف العقول وتكبيل الوعي من مقاومة العدوان إلى إزالة الحرمان، ومن رفضه لتسليع الدين إلى رحاب الحوار واللقاء بين الأديان، وهو من يخاف الله ويخشاه، ولا يخاف على الله كما يشتهي البعض شيطنة الآخر وتكفيره، والاساس ان الله واحد والاديان من منبع واحد. وهكذا رفد الامام الصدر الأمة، بفيض دعوات للحوار واللقاء خاصة في مجتمع وبلد تتعدد فيه الأديان بتنوع الطوائف والمذاهب، وكان الحوار صمام امان للوطن ليكون فيه المصلح والصالح، ومن دون اللقاء والانفتاح والتلاقي والحوار فلا ضمان لركود الأزمات او تصاعد المشكلات، والامة التي تتخلف عن دعوات الوحدة والعمل بها لا ينتظرها الأمن والامان بل الصراع عامل جامع بين اطراف لا يجمعهم شيء آخر من سلالة هذا الحوار وذاك اللقاء، فإذا قيل انه داعية وحدة وتقريب، فهو رائد هذه الدعوات التي سناها واسناها، والتجربة اللبنانية مرهونة بنجاح تعميم لغة الامام، وهو القائل: إذا سقطت لغة الحوار سوف تظلم التجربة اللبنانية، فأكثر الناس طائفية أقلهم تديّنًا، بل هناك فرق بين الاصالة والهجرة الى الماضي، فبناء الوطن ليس ضربة حظ، وهذا ما شكل خارطة طريق للعبور بالوطن الى مستقبل واعد لا سيما الثوابت الوطنية الدستورية والميثاقية باتت محققة من حساب الجميع ان لبنان هو وطن نهائي لجميع أبنائه، كما جاء في ورقة العمل الاصلاحية التي قدمها الامام الصدر عام 1977.

اذا لا يجوز اخضاع الدولة لسلّم المواقف المتأرجحة بل من الطبيعي ان نؤمن بالدولة ونناقش السلطة في ادائها ودورها لأنّ البلد يحتاج إلى عناية ورعاية صادقة في ظلّ تشكّل لبنان من فسيفساء مذهبيّة (سبع عشرة طائفة)، إضافة إلى بعض الإثنيّات كالأرمن والأكراد والسّريان والكلدان، وفي ظلّ نظامٍ سياسيّ وصفه العديد من الباحثين بأنّه "غريب عجيب، ووحيد فريد، مدهش، مذهل، يستعصي على كلّ تصنيف ويتمرّد على كلّ تحليل"، وفي ظلّ نظامٍ اقتصاديّ وصفته أيضًا بعثة "إيرفد" IRFED برئاسة الفرنسي الأب لوبريه في أوائل السّتينيّات بأنّه فريد، ويبتعد عن كلّ القواعد والنّظريّات الاقتصاديّة.

بخصوص العلاقة بين الدين والدولة يقول الامام الصدر بأن: لبنان يضم طوائف متعددة وقد وضع مبدأ المشاركة في الحقوق والواجبات، والطوائف اللبنانية تساهم في الكثير من الحقول الاجتماعية والثقافية...

وقد وجد لبنان نتيجة لهذا الوضع نظاماً فريداً في العالم يمكن اعتباره ضرورة دينية يمكن تعايش الاديان والمذاهب مع بعضها البعض في مجتمع واحد، وفي الوقت نفسه ضرورة حضارية حيث العلاقات الدينية المختلفة بين اللبنانيين في الخارج تجعل الطوائف نوافذ حضارية على جميع العالم وحضاراته ويصبح لبنان بذلك مكان التلاقي وصلة للتفاهم.

إن هذه الرؤية وهذا الانفتاح على الاخر والايمان والتركيز على العيش الواحد بين ابناء الوطن الواحد لم تكن مستجدة او طارئة عند الامام الصدر، بل قناعة راسخة تشكلت وهو في قمّ، ومن ثم العراق، ولذلك شكل حضوره الى لبنان فرصة حقيقية لتحفيز وبلورة هذا المختبر الحضاري في زمن كان الاستعمار والممهّدون له يصعدّون النبرة الطائفية والمذهبية لضمان سيادته. فلا شك أن مهمة الامام كانت شاقة وصعبة تستدعي بذل الجهد وكسر الحواجز المصطنعة، وبداية الحكاية من صور حيث نسج علاقة مميزة مع سيادة المطران يوسف الخوري، وتوطدت لتتجاوز المدينة الى قصر الرئاسة مع الرئيس الراحل فؤاد شهاب.

لقد شارك الامام في بداية شهر حزيران 1963 في قداس أقيم في كنيسة الموارنة في صور عن روح قداسة البابا يوحنا بولس الثالث والعشرون، حيث بادر الى الكلام عن مآثر البابا الراحل مسهبًا في الحديث، وشرح وثيقة السلام على الارض التي صدرت عن قداسته قبل وفاته، وكانت جريدة النهار قد اوردت كلمة الامام الصدر تقديراً للبابا الراحل واعجاباً بالامام السيد موسى الصدر لسعة اطلاعه على الآخر ومتابعته أحداث العالم، وكانت هذه الكلمة ـــ الوثيقة للامام، مكانة ليس على الصعيد المحلّي بل وصلت اصداؤها الى الفاتيكان الذي وجه له دعوة لحضور حفل تتويج البابا بولس السادس بداية تموز 1963.

هكذا بات الامام الصدر محركاً للحوار الاسلامي المسيحي، مع رفاقه المطران جورج خضر الى الأب يواكيم مبارك "انذاك" والشيخ صبحي الصالح وحسن صعب والأب فرنسوا دوبره لاتور ويوسف ابي حلقه ونصري سلهب، أول من وقعوا بيان الثامن من تموز 1965 في اطار المحاضرات التي نظمتها الندوة اللبنانية، التي اطلقها رئيسها وراعيها ومديرها ميشال اسمر، الذي اعتبره الامام الصدر أحد مجدّدي عصر النهضة الفكرية، ولعل هذا البيان يشكل الخطوه الاولى للحوار الاسلامي المسيحي في لبنان، اذ اكد على الثوابت المشتركة في المسيحية والاسلام والهدف هو الانسان.

استكمل الإمام الصدر حراكه المتضمن مطالب الناس، والعمل من اجلهم حمل هومهم:

"والناس جميعهم عيال الله احبهم لله انفعهم لعياله"، كما في الحديث الشريف "ولا يجتمع حب الله في كره الإنسان" كما جاء في الإنجيل المقدّس.

أن هذه المهمة تستدعي حراكاً تفاعلياً، وهكذا كان، لقد اخترق مع اقرانه الحجب وزار الكنائس محاضراً والمساجد واعظًا، ومدرجات الجامعات محلّلًا للواقع ومشدداً على مخاطر الاهمال المتمثل بالحرمان، والعدوان المتمثل بالاعتدءات الاسرائيلية على قرى ومدن الجنوب. لقد أمّ النّاس في المساجد فثاروا، وخطب بهم في الشّوارع فصلّوا، واللافت الاحتفال الذي حضره مع المطران غريغوار حداد في بلدة شقراء و كانت المناسبة عيد انتقال السيدة العذراء، علماً انه لا يوجد في بلدة شقرا الجنوبية المحاذية لبنت جبيل غير الشيعة، وهي بلد السيد محسن الامين الذي ذاع صيته وعلا صوته، وبلد السادة العلماء وهذا ما شكل علامة فارقة في مسيرة ارادها الامام ان تدخل الى القلوب والعقول بارادة العيش الواحد.

هذه المقالة لا تستوعب حراك الامام الصدر انما تأخذ من درره نثرات، ومن مائه العذب قطرات، اذ نورد نماذج ما زالت حية في ضمير من عرفوه والمتابعين لسيرته ومسيرته.

وحسبنا محاضرة الامام الصدر وعظته في كاتدرائيّة مارلويس اللاتنية للاباء الكبوشين في بيروت 19 شباط 1975، حيث اجتمع في الكنيسة المؤمنون لسماع كلمة الله من رجل دين... عالم كبير وعامل من اجل حاضر مستقر وغدٍ واعد، يجتمع في الكنيسة مؤمنون ليسمعوا كلمة الله من رجل غير كاثوليكي، ويُقابل لا بالاعجاب فحسب بل بالتأمل الطويل، ومن الطبيعي ان يكون موطن الحدث هو لبنان بلد اللقاء والاخوة والتوحيد، هذا ما قاله الرئيس شارل حلو بعد سماعه محاضرة الامام بعنوان "القوى التي تسحق والقوى التي تفرّق".

أجل كانت علامات الفرح ممزوجه بعلامات الدهشة، ترسم على وجوه الحاضرين، هكذا قال الصحافي نبيل ناصر، فالتباعد من طبع البشر والوحدة كلام الله.

السياق نفسه يقول المفكّر الراحل الصحفي غسان تويني، احد الذين وقعوا على ميثاق حركة امل في اطار تأييد مطالب الإمام الصّدر: "أمّا العلاقة مع المسيحيّين فقد كان يعتبر الإمام الصدر أن لا فرق بين الكنيسة والمسجد لأنّ كلاهما يعتبر بيتاً من بيوت الله، وأنّ الله واحد ولكلّ النّاس، وكرّس الإمام الصّدر هذا المفهوم عندما زار كنيسة الكبوشيين في باب إدريس والقى خطبة افتتح فيها موسم الصيام من على منبر خلفه صليب ضخم هو رمز المسيح المعذب وكانت الاديان واحدة.."

المسيرة مستمرة: ان جريمة معمر القذافي المتمادية لم تكن لتستهدف شخص الامام السيد موسى الصدر واخويه الشيخ محمد بعقوب والصحافي عباس بدر الدين فقط، بل كانت تستهدف رؤى وافكار وتطلعات ونهج الامام، ولأن كان الظلم الكبير لحق بهولاء الشرفاء. الا أن الإمام الذي قاد أمّة، طالما شرّع مساره على درب الانبياء في خدمة الانسان، لقد أستُهدف شخصاً ونهجاً بمحاولة تكييل الجسد وصولاً لتقييد حركة المجتمع وصولاً لتكييل الوعي.

إن إخفاء الإمام الصدر وأخويه على يد القذافي، ألحق بالامام واخويه الأذى الممزوج بلوعة الفراق، ولكن هذا الاذى ألحق الحزن بمحبيه ومتابعيه والسائرين على دربه والمتابعين لافكاره ومنظومة قيمه. لقد ظُلمت باخفائه المقاومة وتجربة العيش الواحد التي رعاها حتى اشتد عودها، لقد ظُلم كل صاحب قلم حر ورأي سديد وصحافي ملتزم ومقاوم عنيد، لقد ظُلم روّاد العلم والمعرفة وبيوت الفقراء ودور الأيتام والمعاهد والمدارس والجامعات الّتي افتقدت مدرّجاتها نبرات صوته الّتي تردد في أكثر من مناسبة.

ولكن في نهاية المطاف من يقوى على حبس الضّياء؟ ومن يقوى على شعب أقسم في بعلبك وصيدا وصور: "لا نهدأ ما دام في لبنان محروم واحد"؟، وسقط السّجّان وبات لعنة على كلّ لسان، وبقي الإمام يبعث فينا الأمل وينفض عنّا غبار السّنين.

واستمرّت هذه المسيرة في المقاومة وثباته، في التّأكيد على لغة الحوار، وبتحقيق مطالب المحرومين والمعذّبين.

استمرّت المسيرة وكلّنا أمل بعودة الإمام الصّدر واخويه الى ساح جهادهم، استمرت المسيرة والاهداف عصية على التدجين، وبقيت الراية مرفوعة بقيادة دولة الرئيس نبيه بري والإخوة والأخوات في رحلة الجهاد في حركة امل وكشافة الرسالة الإسلاميّة، وفي إبقاء خيارات الوحدة الوطنيّة والحوار والعيش الواحد حاضر في كلّ مناسبة، كلغة لقاء ومسارات حلول.

قافلة الشهداء تخبرنا أنّ المقاومة أساس، والدفاع عن الأرض كالدفاع عن النفس، وأنّ تحقيق مطالب المحرومين والمعذّبين أساس على جدول أعمالنا، وأنّ المتتبّع للوقائع والحقائق يجد أنّ الدّعوة الى الحوار هي أولوية عند حركة امل ورئيسها الاخ نبيه بري، الذي استند الى كمّ معرفي وعملي استقاها من مواكبته لمسيرة الامام الصدر في حله وترحاله، وبات داعية حوار ولقاء وعيش واحد.

وأخيرًا فإننا ما زلنا نؤكد على ضرورة تحرير الامام واخويه من سجنهم في ليبيا، على قاعدة إنّ جريمة الإخفاء ارتكبها القذّافي وعلى النّظام الجديد في ليبيا مسؤوليّة التّحرير، لاعتقادنا بأن الإمام وأخويه أحياء، وأنّ شعبهم ومحبّيهم بالانتظار مع الدّعاء بعودة الإمام وأخويه سالمين.

سيّدي سماحة الإمام معك يكبر الحلم وعلى عودتكم تعقد الآمال.

الأكثر قراءة