قراءة في كتاب "جذور الميكيافيللية في كليلة ودمنة"
محمود القيسي
Tuesday, 10-Sep-2024 07:04

"خبّرت عنا الحيوانات، حين عجز البشر عن "قولنا" خوفاً أو ذعراً أو ما يشبه الصراحة إلّا قليلاً".

من فن الدهاء وحيل الذكاء في الميثولوجيا الإغريقية والميثولوجيا الاسكندنافية النوردية، ومن أساطير ما بين النهرين، إلى فن الحيلة والدهاء عند العرب من خلال كتبهم ومؤلفاتهم العديدة، إلى كتاب "كليلة ودمنة" مروراً بمكيافيللي "الأمير"، والدهاء والحيل في التراث الصيني والياباني عبر كتاب "فن الحرب – سن تزو"، وكتاب "الاستراتيجيات الست وثلاثون"، وكتاب "الحلقات الخمس"، وصولاً إلى كتابَي روبرت غرين "ثمانية وأربعون قانوناً للقوة" و "ثلاثة وثلاثون استراتيجية للحرب" نكون قد وصلنا كما يقال إلى البوابة الممنوعة.. والممتنعة... بوابة مؤسسة السلطة الحاكمة عبر التاريخ من الف باء الدهاء إلى الف باء الحيلة. ولم يبق أمامنا كي لا نثير الشبهة سوى الطرق على البوابة من اجل شربة ماء أو كسرة خبز أو اي كذبة بيضاء أو سوداء في سوق السياسة التاريخية التي لم نعد نميز لونها الأسود في بلادنا من اللون الرمادي واللون والأبيض في بلاد العالم!

ذكر في مقدمة كتاب كليلة ودمنة أن الحكيم الهندي «بيدبا» قد ألّفه لملك الهند «دبشليم»، وقد استخدم المؤلف الحيوانات والطيور شخصيات رئيسة فيه، وهي ترمز في الأساس إلى (شخصيات بشرية تشبهها) وتتضمن القصص مواضيع عدة من أبرزها العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالإضافة إلى عدد من الحِكم والمواعظ. حينما علم كسرى فارس «أنوشيروان» بأمر الكتاب وما يحتويه من المواعظ، أمر الطبيب «برزويه» بالذهاب إلى بلاد الهند ونسخ ما جاء في ذلك الكتاب ونقله إلى الفهلوية الفارسية. كَلِيلَة ودِمْنَة كتاب يتضمّن مجموعة من القصص، ترجمَهُ عبد الله بن المقفع من الفهلوية إلى اللغة العربية في العصر العباسي وتحديدًا في القرن الثاني الهجري الموافق للقرن الثامن الميلادي وصاغه بأسلوبه الأدبي مُتصرفًا به عن الكتاب الأصلي. يصنف النقاد العرب القدامى كتاب كليلة ودمنة في الطبقة الأولى من کتب العرب ويجعلونه أحد الكتب الأربعة الممتازة إلى جانب الكامل للمبرد والبيان والتبيين للجاحظ والعمدة لابن رشيق.

 

جذور الميكيافيلية في كليلة ودمنة: كتاب طريف في مجمله للاستاذ مصطفى سبيتي. مؤلفه يقرأ كتاب «كليلة ودمنة» للفيلسوف الهندي بيدبا مراراً، فينتابه الشك بأنّه قرأ أفكارا مشابهة لأفكاره في مكان آخر، ثم يتأكد من صحة شكوكه حينما يقرأ مؤلفات نيقولو ميكيافيللي، وبالأخص «الأمير» و«المطارحات»، ويتوصل إلى أن ميكيافيللي، يقتبس من كليلة ودمنة اقتباساً يصل في بعض المواضع إلى حدود الترجمة الحرفية كما سنرى بعد قليل. يعتمد سبيتي، في بحثه الشائك هذا، على خاصية بارزة في كتاب كليلة ودمنة، وهي انّه كتاب سياسي من الطراز الرفيع، مصاغ على نحو دقيق، بل ومحكم إلى حدّ أنّ مترجمه عبدالله بن المقفع في مقدمته المهمّة يشّدد على ضرورة التروي والتبصر في قراءته حتى يقدر على الاستفادة من الكنوز الثمينة المبثوثة فيه، ويعني بهذه الكنوز «المفاهيم السياسية» بالطبع، حيث يقول: «من قرأ هذا الكتاب فليقتد في هذا الباب، فإنني أرجو أن يزيده بصراً ومعرفة، فإذا عرفه اكتفى واستغنى به عن غيره، وإن لم يعرفه لم ينتفع به، فيكون مثله كمثل الذي رمى حجراً في ظلمة الليل فلا يدري أين وقع الحجر، ولا ماذا صنع».

 

ويلاحظ المؤلف على نحو ذكي للغاية: النقاد والمفكرون الذين تناولوا «كليلة ودمنة» في مؤلفات بلغت المئة، لم ينتبهوا إلى أنه كتاب في الفكر السياسي، وكلهم عالجوه من زوايا الأدب أو البلاغة أو الخرافة أو الأمثال أو الحكمة أو أثر الترجمة، أو الحديث عن الزنادقة. كذلك لم يتنبهوا إلى أنّ المخاطب في «كليلة ودمنة» هو الدولة، وقد وردت بصيغ مختلفة هي «العاقل ـ ذو العقل ـ المرء ـ الرجل ـ الملك ـ السلطان ـ الوالي ـ صاحب السلطان..». إن بيدبا الفيلسوف الهندي هو مؤسس الواقعية السياسية في سنة 570ق.م. وانّ معادلاته السياسية تركّزت حول: «علاقة الغاية بالوسيلة ـ معادلة المنفعة والضرر ـ معادلة الفضيلة والرذيلة ـ التكامل بين القوة والخداع ـ تشريع اعتماد السلطة كهدف يجوز من أجله كل سلوك».

 

على الرغم من إسناد بطولة «كليلة ودمنة» للحيوانات الّا انّها تمثل الشرائح السياسية: فالاسد هو رأس السلطة، والنمر هو الصاحب والوزير والقاضي، وابن آوى هو المغالب في حياته صراع المصالح من اجل تحقيق موقع افضل في الهيكلية السلطوية والاجتماعية، والفيل هو المتعجرف ذو الأنفة، والكلب تابع ذليل، والجرذ يمثل الذكاء والحكمة. وكمثال على الصياغة الذكية الملتبسة عمداً في «كليلة ودمنة» يورد المؤلف المثال التالي: (ثلاثة لا يجترئ عليها الاّ اهوج، ولا يسلم منها الّا القليل: مصاحبة السلطان، وشرب السم للتجربة، وائتمان النساء على الاسرار)! فللوهلة الاولى لا يمكن التأكّد اي الثلاثة هو المقصود بالتحذير، إذ تصلح كل اثنتين اسناداً للثالثة. وهذا يعيدنا الى تنبيه ابن المقفع الى القراءة المتأنية (السياسية)، الذي يوضحه اكثر من موضع آخر إذ يقول: (وكذلك يجب على قارئ هذا الكتاب ان يديم النظر فيه من غير ضجر، ويلتمس جواهر معانيه، ولا يظن ان نتيجته الاخبار عن حيلة بهيمتين او محاورة سبع لثور، فينصرف بذلك عن الغرض المقصود).

 

وفي فصل خاص عن ميكيافيللي، ومدى اطلاعه على «كليلة ودمنة» يجزم المؤلف بذلك، لأن ميكيافيللي واحد من نخبة مثقفي عصره، وقد بلغت ثقافته وظائف حساسة في فلورنسا حيث كان سفيراً لبلاده في دول عدة، وقد اجمع المؤرخون على سعة اطلاعه على تفاصيل تاريخ ايطاليا بشكل خاص والتاريخ السياسي لأوروبا بشكل عام، اضافة الى معرفة واسعة بتاريخ الشرق. وهذا يظهر في الامثلة التي استقاها من تاريخ الهند ومصر والسلطنة العثمانية، وهو ابن محام ارستقراطي، وام شاعرة واديبة، وكان صديقاً شخصياً لفرجيليو، وكان يجيد اللاتينية والاغريقية والفرنسية والالمانية، و«كليلة ودمنة» كانت قد تُرجمت الى هذه اللغات والى الايطالية ايضاً، فهل يُعقل انّه لم يطلع عليها؟

 

ابن المقفع، رجل "لم يكن يمزح"، كان يحمل على عاتقه إرثاً سياسياً ويختفي خلف كتاب ما ينفك يكبر ويتضخم، ويثير خلفه التأويلات. كتاب أثار خلفه الأقاويل، ولم يكن مجرد مترجم أي بلغة أن "ناقل الكفر ليس بكافر". واما بخصوص التشابه بين افكار الكاتبين، فإليكم بعض الامثلة: يقول ميكيافيللي في الامير: على الامير ان لا يسند المراتب الرفيعة الى اناس سبق واساء اليهم. وفي «كليلة ودمنة»: لا ينبغي على الملوك ان يقربوا من سبق وعاقبوه اشدّ العقاب. ويقول ميكيافيللي: انا لا ادعو الى عدم استخدام القوات العسكرية، ولكنني ادعو الى جعلها الوسيلة الاخيرة بعد استنفاد الوسائل الاخرى. وفي «كليلة ودمنة»: العاقل جاعل القتال آخر الحيل وبادئ بما سوى ذلك. يقول ميكيافيللي: وعليه يتصرف في هذا المجال مع جميع مستشاريه بشكل يجعلهم واثقين انّهم كلما تكلموا بصراحة واخلاص كلما كان الامير راضياً عنهم. وفي «كليلة ودمنة»: لا تكتموا الملك أو الامير سراً ولا تدخروا نصحاً ولا تخفوا عليه حرفاً واحداً وليقل كل منكم ما يعلم.. كل ما يعلم...

الأكثر قراءة