تلك هي معجزة الكلمة.. فكيف إذا كانت كلمة حق
المحامي الدكتور نقولا فتوش
Wednesday, 26-Apr-2023 07:07

الذين يطلبون من الكلمة تأشيرة دخول، أو يفتشون ثيابها وحقائبها، يضحكون على أنفسهم. فالكلمة تنتقل في دم الناس وبالأخص في دم المحامين، وفي خلاياهم وفي أنفاسهم. وليس ثمـة جهاز، مهما بلغت قدرته ودقته وحساسيته، يستطيع اكتشاف كمية الغضب في دم إنسان ما، أو محامٍ ما.

حضرة النقيب ناضر كسبار وأعضاء مجلس نقابة المحامين في بيروت المحترمين

تحية وبعد،

 

أتوجّه إليكم بكلمات الإحترام،

والكلمات أيها النقيب، طيور بحرية، تتعقب قميص السمـاء الأزرق بمناقيرها الحادة، وتخترق الأبعاد من دون تأشيرة دخـول.

 

ليس ثمة عدسة في العالم، تستطيع تصوير دموع الشعب قبل أن تتشكّل.

تلك هي معجزة الكلمة، فكيف إذا كانت كلمة حق.

 

فالكلمة هـي جبين وغضب، وإن حوصرت مات الله في الإنسان، ولا تأتي بمرسوم من السلطان ولا تسكت بمرسوم من السلطان، إنّهـا أشبـه بالنباتـات الإستوائية التي تكبر.. وتزهـر، وتتوالد في عتمة الظنون.

 

إنها هذه الزهرة الشيطانية، السرّية الرائحة، التي لا تستطيع الأجهزة أن تكتشفها.

 

الكلمة هي أول شجرة زرعها الإنسان على باب بيته،

أول نجمة إهتدى بها الإنسان قبل إختراع الشمع والقناديل،

أول وسيلة اتصال، قبل أن يكون البريد، والتواصل الاجتماعي، والأقمار الصناعية.

 

أول وردة بيضاء خرجت من دَواة الحبر.. يوم قوارير العطر لـم تُخترع بعد.

الكلمة هي أول محاولة للرسم، يوم الفراغ لم يملأه أحد ... والألوان لم تنفصل عـن بعضها، ولم تكتمل شخصيتها.

 

الكلمة هـي أول تجربة صوتية يوم كان العالم مسكوناً بالصمت.

وهي أول وأقدم منشور ثوري كتبه الإنسان، إحتجاجاً على غياب العدل وغياب الحرية.

 

والكلمة، بعد ذلك، هي الإنقلاب الوحيد في التاريخ، الذي يستعمل أدوات الحضارة من ورق، وحبر وأقلام ... لتغيير الشرط الإنساني ... وتغيير العالم.

والكلمة هـي أول مساءلة في العالم عندما حاسب الله آدم على أكل التفاحة.

 

يقول الكتاب المقدس:

«في البدء كانت الكلمة».

 

وهذا يعني بوضوح، أنّ الكلمة جاءت، من حيث الترتيب الزمني للخلق، قبل العناصر الأربعة: الماء، والنار، والهواء، والتراب.

 

كما أنه يعني بداهة ومنطقياً، أنّ الكلمة كانت قبل النقابة، وقبل السلطة، وقبل محاكم التفتيش والمشانق وساحات الإعدام، ولأنّ الكلمة قديمة قديمة وعريقة عريقة، فـإنّ رجل البوليس عندما يحقق فيها، يتحاشى التطلع في عينيها حتى لا يبكي... أو ينهار فوق أوراق ملفاته.

 

الكلمة هي عباءة حق الدفاع المشروع، حق الدفـاع المقدّس، وهل ممارسة حق الدفاع يتحمّل الانتظار لتأتيه التأشيرة.

 

حضرة النقيب، لقد خالفتم الدستور وشرعة حقوق الإنسان.

فقد نصّت المادة 13 من الدستور على ما حرفيته:

«حرّية إبداء الرأي قولاً وكتابة، وحرّية الطباعة وحرّية الاجتماع وحرّية تأليف «الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون».

 

هـذه الحرّية مكفولة بالدستور والقانون ولا يلغيها قرار صادر عن النقابة.

 

وجاء في الديباجة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان المواد التالية التي نوردها حرفياً:

«لما كان الإعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم «المتساوية الثابتة هو أساس الحرّية والعدل والسلام في العالم.

 

«ولمّا كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجي آذت «الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر إنبثاق عالم يتمتع فيه «الفرد بحرّية القول والعقيدة ويتحرّر من الفزع والفاقة.

 

«ولما كان من الضروري أن يتولّى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء «آخر الأمر إلى التمرّد على الإستبداد والظلم».

 

كما نصّت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما حرفيته:

«لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في إعتناق «الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّهـا ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة «وسيلة ودونما اعتبار للحدود».

 

كما نصّت المادة 29 على ما حرفيته:

«على كلِّ فرد واجباتٌ إزاء الجماعة، التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته «النمـو الحـرّ الكامـل.

 

«لا يُخضع أيُّ فرد، في ممارسة حقوقه وحرِّياته، إلاَّ للقيود التي يقرِّرها القانونُ «مستهدفًا منها، حصرًا، ضمانَ الإعتراف الواجب بحقوق وحرِّيات الآخرين «واحترامها، والوفاء بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع في «مجتمع ديمقراطي.

«لا يجـوز في أيِّ حـال أن تُمـارَس هـذه الحقـوقُ على نحـو يناقـض مقاصـدَ الأمـم المتحـدة ومبادئهـا.

 

والمـادة 30 نصّـت علـى مـا حرفيتـه:

«ليـس في هـذا الإعـلان أيُّ نـصٍّ يجـوز تأويلـه على نحـو يفيـد انطـواءه على تخويـل أيَّـة «دولـة أو جماعـة، أو أيِّ فـرد، أيَّ حـقٍّ في القيـام بـأيٍّ نشـاط أو بـأيِّ فعـل يهـدف إلى «هـدم أيٍّ من الحقـوق والحرِّيـات المنصـوص عليهـا فيـه.

 

فالمنـع مطلـق لأيـة دولـة أو جماعـة أو نقابـة، والمطلـق يؤخـذ على إطلاقـه.

 

والشريعـة الإسلاميـة كانـت واضحـة وقاطعـة وفرضـت انـّه «لا طاعـة لمعصيـة»

 

ومن المفيـد ذكـر القاعـدة القانونيـة في القضايـا الجزائيـة المتعلقـة بالنائـب والمحامـي العـام. النائـب العـام يتمتـع في جلسـات المحاكمـة بحرّيـة الكـلام

La plume est serve, mais la parole est libre.

 

وهـذا يعنـي أنّ ممثـل النيابـة العامـة يستطيـع أن يطلـب من المحكمـة تبرئـة من سبـق لـه وباشـر ملاحقتـه.

-Criminel 30/11/1976. B. 345.

 

ومع ذلـك يبقـى من حقـه أن يطعـن بالحكـم الـذي صـدر وفقـاً لمطالعتـه الشفويـة أثنـاء المحاكمـة لأنّ هـذه المطالعـة لا تقيـّده.

-Crim. 20/10/1964. B. 268.

 

فقراركـم يتعـرّض لمبـدأ دستـوري وهـو حـق المسـاواة.

 

قـال جبـران «الفـن طائـر يسبـح محلّقـاً في الفضـاء عندمـا يشـاء ويهبـط الى الأرض عندمـا يشـاء وليـس من قـوة في العالـم تستطيـع تقييـده وتغييـره».

 

الكلمـة في مـا تعنيـه، لا تعنـي الـوجـود كمشـروع وحسـب، بـل كوجـود موجـود ومنوجـد. وفي الوجـود اللبنانـي إنّ الكلمـة عندمـا انوجـدت، وجـد لبنـان .

 

على هـذه المقدّمـة البكـر، في الوجـود والكيـان ومـا تمثلـة الكلمـة في جوهـر هـذا الوجـود والكيـان،

أبنـي التأمّـلات التاليـة:

 

إنّ المحامـاة اذا إجتمعـت على القواسـم وفعلـت زخمهـا وانطلقـت، يستقيـم في الوطـن كـل شـيء.

في القيـم أمـر عظيـم، بحيـث أنّهـا لا تكـون إلّا اذا اتصفـت بـه، وهـذا الأمـر هـو الفـرادة.

فحرّيـة التعبيـر، لا شـيء قبلهـا، ولـن يكـون بعدهـا، إلاً بمـا يجاريهـا وكذلـك البطولـه.

وكذلـك النبـل وكرامـة المحتـد، والأحـلام بالمستقبـل.

 

إنّهـا أشيـاء عَلَلًهـا في ذاتهـا كمـا كانـت تقـول الفلسفـة القديمـة، أو هـي في الله والضميـر والحقيقـة والتاريـخ، كمـا تقـول عـادة في مـا بعـد هاتيـك الفلسفـات.

 

وليسمـح لنـا حضـرة النقيـب ومجلـس النقابـة من بـاب توليـد الفكـر من الفكـر أن أقـول، صحيـح أنّ حريـة الكلمـة فريـدة النـوع، وصحيـح أنّهـا وجـدت منـذ كـان النـور والأرز والمُطلـق، إلاّ أن محرّكهـا الأول، كـان القلـم الـذي «علّـم الإنسـان مـا لـم يعلـم»، وإنّ الحريـة بـه استضـاءت وأينعـت.

 

وإنّ البطولـة كانـت أيضـاً تعليـم بهـذّاك القلـم، وإنـّه ان لـم يكـن مشـروع كلمـة فـلا هندسـة ولا بنـاء، ولا أمجـاد تعلـو لـه، ولا عيـش في أحـلام وهنـاءات.

أيتهـا الحرّيـة، يـا مستقبـلاً بـه كانـت المحامـاة ومعهـا كانـت.

 

أيتهـا البطولـة يـا سمـو الـدم إلى حبـر المداهـن، وفسحـة المحابـر والمحاجـر ويـا تأكيـداً بـه المحامـاة ومعهـا كـان.

 

يا لبنـان، أيتهـا الحريـة التـي قـال فيهـا الأستـاذ غسـان توينـي، «إذا لـم تكـن الحرّيـة شرسـة أكلهـا الخـوف»، هـذه الحرّيـة المكتوبـة على الـواح مدرسـة بيـروت أم الشرائـع والمكتوبـة على الأشرعـة والمجاذيـف، ورفيـقَ الأجنحـة وأهـداف النسـور.

 

يا وطنـاً جغرافيتـه كلمـة حـرّة.. وكلمـة تُكتـب اليـوم بالحبـر والـدم وفي غـدٍ بالنـور.

 

سعـادة النقيـب،

غـداً، حتـى لا يُقـال الكلمـة الحـرّة صادرهـا النقيـب ومجلـس نقابـة المحاميـن في بيـروت،

 

أتوجـّه إليكـم بهـذا الكتـاب المفتـوح قائـلاً،

 

لا تغالـب مجـرى النهـر كمـا يقـول الكتـاب المقـدّس، وتفضّـل ومجلـس النقابـة بالرجـوع عن قراركـم كمـا قـال عمـر بـن الخطـاب، الرجـوع إلى الحـق خيـرٌ من التمـادي في الباطـل، معلنـاً أنّ استعمائـي لهـذه العبـارات والكلمـات كانـت من مستلزمـات الدفـاع المقـدّس والمشـروع. فالزمـن هـو أهـم مستشـار والتاريـخ لا يرحـم.

الأكثر قراءة