هناك تساؤل دائم حول مدى أحقيّة الروايات للدخول التنافسيّ في الجوائز الكبرى، التي توصف عادة بالنزاهة والاستقامة وعدم الإنحياز. ويبقى طرح التعليل قائماً على أساس احتماليّة كونها أفضل ما قُدّم، أو أنّها قد تحقّق تقدّماً لافتاً بسبب مشكلةٍ عصريّة يعاني منها المجتمع، وتعتصر خلاياه النائمة، فيصبح تقييمها عالياً ومخوّلاً لها للفوز.
في رواية «دفاتر الورّاق» لجلال برجس التي فازت أخّيراً بجائزة «بوكر» العربيّة، محاولة مستميتة لتقليد خطّ الرواية الغربيّة النفسيّة المعاصرة، متأثّراً بقراءاته لرواياتٍ سيكولوجيّة تؤدّي للإجرام، مستعرضاً ما قرأه وتأثّر به من خلال بطل قصّته إبراهيم، الذي يعاني من تعدّد اضطراب الهويّة التفارقي، ويرسم خطوط تساؤلات حول شخصيّته ومقدار صدقيّتها في ظلال الأوهام الجسيمة التي تحتدم في روحه، وتصوّر له العالم مكاناً للحزن والصراع الدمويّ الآثم بين البشر، داعماً روايته بأقوال عظماء من أدباء وفلاسفة مثل دوستويفسكي وفرويد وغيرهما. فيقول: «في البرد تسقط أحلام الوحيد إلّا صورة الحضن الدافئ• الحرارة تطرد الماء من الأشياء بحجة التبخّر فينتصر الجفاف، والبرد يجلب أمنيات العصافير بمزيد من القش لتحافظ على أعشاشها• ها أنا الآن وجهًا إلى وجه مع سكاكين العراء الحادّة، لست حزينًا، لست خائفًا لكني أحتاجك جدًا».
تبدأ القصّة مع ابراهيم الذي عانى من الغربة بعد أن رحل بهم والده أستاذ الفلسفة الذي كان ينتمي إلى الحزب الشيوعي، وسجن ثلاث سنوات بسبب هذا الإنتماء، مع أمّه وأخيه إلى المدينة، فودّع أطياف قريته الحالمة التي كانت مترع صباه ومصدر حماية له من أيّ خطر.
يكبر ابراهيم فتموت أمّه ويرحل أخوه عابد مهاجراً، ويبقى والده يصارع همومه بعد أن عانت ذاكرته من مشاهد تعاوده إبّان فترة سجنه، فقد عاد من روسيا بعد أن نال شهادة الفلسفة، وتحدّى والده الذي رجاه وألحّ عليه أن يدخل كليّة الطب، فتوظّف في مدرسة القرية وتابع اجتماعاته السريّة مع أفراد الحزب، ولكنّ الشرطة توقع به وتزجّه في الأسر، وتشترط عليه حتّى يخرج أن يعلن انسحابه من نشاطه السياسيّ، ويقدّم لهم القليل من المعلومات عن رفاقه، بعد أن أذاقته أصناف العذاب الوحشيّ.
يمتثل لأوامرهم صاغراً حتى يعود لعائلته، ولكنّ الندم يشيّعه شهيداً للذلّ، بعد أن باع ضميره في سبيل راحته النفسيّة، فيغيب عن ابنه ابراهيم شهوراً كثيرة ليمعن في وحدته، وذات يوم وبحسب رواية ابراهيم، يرى أباه وقد اعتلى كرسيّاً وشنق نفسه في المطبخ.
يترك الأب لابنه كشك الورّاق الذي يبيع فيه الكتب ليعتاش منه، ولكنّه يُصادر أيضاً بأمرٍ من الحكومة لصالح أصحاب نفوذ، فيصبح عاطلاً من العمل.
يلمّح الكاتب عن شخصيّة ابراهيم بأنّه بارع في تقمّص الشخصيّات إلى أقصى حدّ، ويتركنا نعيش معه لحظاته النفسيّة القاسية، عندما يخيّل إليه أنّ كائناً غريباً يسكن في داخله ويكلمّه ويأمره بالإقدام على القتل والنهب لينتقم من الحكومات الجائرة في حقّ أبنائها، ويثأر منها بطريقة بربريّة عنيفة.
يقرّر ابراهيم أن ينتحر، فيذهب إلى فندق في العاصمة يشرف على البحر، ولكنّه يصادف هناك امرأة تثنيه عن عزمه بعد محادثة قصيرة بينهما، يخيّل إليه أنّها مقدّمة مثله على الموت، ثمّ تغادره على عجلة بعد أن تنسى أوراق يوميّاتها على الشاطئ، فيحتفظ بها بعد أن يبحث عنها بلا جدوى.
يشعر بأنّه وقع في غرام هذه المرأة، ويعدل عن الموت وعندما يعود إلى منزله يأمره صاحب المنزل بإخلاء البيت على الفور، مستخدماً لغة التهديد، فيصبح شريد الشوارع والطرقات ويلجأ إلى جسرٍ مهدّم ليحتمي به من المطر، فيلتقي بفتاة متشرّدة تدعى ليلى تبثّ له همومها وتعرّفه على باقي رفاقها المتشرّدين، ويلجؤون جميعاً إلى منزل مهجور يأويهم في ليالي البرد.
يأمره الصوت القادم من داخله أن يشرع في تنفيذ مخطّطاته، فيبدأ بانتحال الشخصيّات التي قرأها في روايات دكّانه، مستخدماّ القناع ويسرق البنوك والمنازل الثريّة، ويتمّ العثور على شخصيّات مرموقة فاسدة في المجتمع يكنّ لها ازدراء ومقتاً، مقتولة في منازلها.
تبدأ الصحف بتداول خبر اللص الذي اقتحم المصارف والمنازل ويتمّ وصفه بحبيب الفقراء، لأنّه مسّ جرحاً عتيقاً جرّاء سخطهم على عالم النفوذ والقوّة الذي يحجب عنهم ضوء الحريّة، وتسمع عنه السيّدة التي التقاها على الشاطئ دون أن تعرف هويّته، فتكتب عنه وتسعى للتعرّف إليه، ويعثر عليها في صفحة الفيسبوك وقد كتبت تعليقاً عنه، فتدبّ فيه الحياة ويطلب لقاءها على الفور لتستردّ مفكرّة يوميّاتها ولكنّها تفرّ مذعورة عندما تقع عيناها عليه.
ثمّ تتكشّف الأحداث عن مفاجأة محبطة، بأنّها كانت زوجة لأبيه الراحل الذي وقعت في حبّه، ولكنّه انقلب إلى انسانٍ وحشيّ معها، وبعد طلاقها منه حاولت أن تبحث عنه لتعود إليه، ولمّا تناهى إلى مسمعها بأنّه انتحر تحاول أن تنهي حياتها ولكنّ الصدفة تجمعها بابراهيم.
تتداخل الصدف والشخصيّات، مثل طبيبه النفسيّ الذي يراسله وليلى التي تعمل بالصدفة عند والدة ذاك الطبيب، والقاء القبض على ابراهيم بعد أن حاول «وبالصدفة» أيضاً أن يسرق المنزل الذي تعمل فيه ليلى، بعد أن أزاحت القناع عن وجهه وتعرّفت عليه.
تكون نهايته في مستشفى الأمراض العصبيّة، بعد اتّهامه بالسرقة والقتل مدفوعاً من منطقة اللاوعي في ذاكرته الباطنيّة. يلمّح الكاتب في نهاية الرواية بأنّ الوجوه التي مرّت في القصّة ربّما تكون شخصيّات من ابتكار البطل أيضاً، فهي تتناوب على زيارته ولكنّها تحمل معها غشاوةً مقنّعة.
رواية «دفاتر الورّاق» اتّخذت الصدف مكاناً وزماناً ومحوراً أساسيّاً، لتحوّل الحدث وتبدّله، وعجزت عن التكيّف مع الأدب الغربيّ الذي يبدو أكثر اقناعاً وأمتن حبكة للقارئ، فحشدت وجوهاً كثيرة لاضافة جوٍّ من الإثارة، ولكنّها لم تحكم السيطرة على خيط العقدة الأساسيّ في عالم النفس، الذي يبدأ بعقدة نفسيّة مكتومة وينتهي بكارثة إنسانيّة حقيقيّة.