قد يمسكُ الإنسانُ بتلابيب الحزن القاتم ويشقُّ عباءته مدركاً أنه سيصبح قطعةً من الظلام إذا ما ترك قلبه يتشابك بأحجيته، فيحفر في أعماقه متلمّساً بصيصاً من ضوء رغم أنف الظلام المتراكم في غمامٍ دامس، ليسبحَ رغماً عن أحزانه في نسيجٍ من ضوء يمهّدُ له السبيلَ نحو الأمل.
في روايته «ظلّ الريح» التي ترجَمها معاوية عبد المجيد، يحرص الروائي الإسبانيّ كارلوس زافون على تجسيد سيكولوجيا الساديّة المازوخيّة، أو تعذيب النفس، حيثُ يتلذّذُ الشخص بإلحاق الضرر بنفسه، معاقباً إيّاها على ذنبٍ يؤرقه اقترفه عن قصدٍ أو غير قصد، ومجنّداً طاقاته لإخماد ثورته الذاتيّة على نفسه، لأنّه يرى نفسه مشوّهاً محطّماً وشبه مَيت يجوبُ مناطق الأحياء بركامٍ وحطام إنسانيّ.
تبدأ القصة في مقبرة الكتب المنسيّة، أو في مخزن قديم للكتب النادرة التي انقرضت أو شبه انعدمت من الوجود، فهذا المكان يحتوي على كلِّ كتابٍ قد يبحث عنه الإنسان، ويجد صعوبة في العثور عليه، وقد اصطحب الأب، وهو بدوره يمتلك مكتبة ضخمة للكتب، ابنه دانيال إلى هذا المكان السريّ بعد وفاة والدته، كي يختارَ كتاباً لا يتوفّر في الأسواق للقراءة.
عصا سحرية
يعثر دانيال على رواية لكاتبٍ يدعى خوليان كاراكس، بعنوان «ظلّ الريح»، فيجذبه غلافه كعصا سحريّة تتشرذمُ إيقاعاتها لتتوحّد من جديد في إيقاعٍ فنّيٍّ صاخب، وقد وجد نفسه يتيهُ في طيّات الصفحات حرّاً طليقاً، وفي هذا يقول: «كانت صفحاته ترتجف كجناحي فراشةٍ استردّت حريّتها، أو كسحابة من غبارٍ ذهبيّ خرجت للتوّ من السجن».
تصبحُ الرواية الرفيقَ المثالي لدانيال، الذي كان يتخبّط بأحزانه بعد رحيل أمّه، فتحوّلت حياته بعد قراءتها لسمفونيّة عذبة، وأبحر في دنيا هائمة بالنشوة، لا يدركُ مداها إلّا من قرأ بعمق وتعمّق، ويصبح همّه وشاغلُه الأكبر أن يعثرَ على صاحب الرواية الذي لم يسأل عنه كثيراً ولم يعلم عنه من بائعي الكتب وأصحاب دور النشر شيئاً.
يعرّفه والده على «جوستابو برسلوه» وهو صاحب مكتبة عميقة ويُعتبرُ لغيره من بائعي الكتب، زعيمَ باعة الكتب القديمة والنادرة بلا منازع. يقدّمه جوستابو لقريبته العمياء كلارا التي تكبره سنّاً، وقد قرأت بدورها روايات لكاراكس، وأخبرته بأنّ رواياته قد اختفت وانطوت معالمها، ولم يتبقّ إلّا النسخة التي يمتلكها على قيد الحياة.
حبّ في الصغر
يقع دانيال في غرام كلارا على الفور وهو الصبيّ اليافع الذي لم يتجاوز سنّه العاشرة، ولكنّه يصطدمُ بحاجزٍ فولاذيٍّ ينتصبُ أمامه كموج ثائر يشلُّ أملَ الغريق عندما يراها وهي تمارسُ الجنس مع مدرّسها الخاص للموسيقى، ويقوم الأخير بضربه وتوبيخه لتجسّسه عليهما، فيهرع هارباً من المشهد ليتعرّف صدفة الى المتشرّد فيرمن الذي يصبحُ لاحقاً صديقه المقرّب ويعرف منه بأنّه كان موظّفاً مرموقاً ولكنّه تعرّض للقمع السياسي المرهق على يد ضابط من المخابرات، فسلبه عمله وعقله وماله بعد تعذيبٍ عنيف مارَسه عليه. يصبحُ فيرمن الصديق المقرّب لدانيال، ويعرض عليه أن يعمل في مكتبة والده فيصبح جزءاً من العائلة وفرداً فيها.
تمرّ عدّة سنوات، يكبر دانيال وينتزعُ كلارا من قلبه بصعوبة كما يلتئم الجرحُ بعد أن تُغرز فيه المطوى بعمقٍ وألم، ويعثر على معلوماتٍ قليلة عن كاراكس، منها أنّه كان يعمل كعازف بيانو في ماخور، وقد احترف الكتابة وأصاب منها الكثير من الإبداع والقليل من المبيعات، فقد كانت كتبه لا تباع رغم كلّ مضمونها الناجح والراقي. وقد تناهى إلى أسماع من عرفوه بأنّه قتل خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة ولم يعثر أحدٌ على جثّته.
حلّ اللغز
يتعرّض دانيال خلال رحلة بحثه عن كاراكس لتهديدٍ مخيف من رجلٍ مشوّه تتخلّل وجهه ندوب الحريق، يظهر له فجأة ويشبه شخصية رسمها الكاتب في إحدى رواياته، ويقرُّ له بأنّ مهمّته هي حرق وإتلاف كلّ عمل يمتّ للكاتب بصلة، وأنّه يهمّش دوره في الحياة حتّى بعد مماته، فيتحرّى دانيال ويغوص في التفاصيل أكثر بمساعدة صديقه فيرمن، فتنبثق لهما وجوهٌ من ماضيه تمثّل حلّ اللغز بالنسبة لهما، وهم أصدقاؤه: ميغيل مولينر الذي لطالما اعتنى بكاركاس ماديّاً ومعنويّاً ومثّل له برّ الأمان ومركز الطمأنينة، وخورخي آلديا وهو ابن الدون ريكاردو فاحش الثراء الذي أغدق كاركاس بعنايته وتعمّد أن يقصد دكّان والده الخيّاط البسيط ليطلب منه تبنّيه لسببٍ كان يجهله فيقع في حبّ ابنته بينلوب، وأخيراً وجه موريا مونفورت ابنة حارس مقبرة الكتب المنسيّة، وهي التي عشقت كاركاس بكلّ جموح وحماسة ولم يقابلها إلّا بالصدّ. كذلك يكتشف الصديقان حقيقة صديق كاركاس، المحقق فرانشسكو خافيير روميرو الذي يترصّد الأخير بالشر منذ طفولتهما ونشأتهما معاً لغيرته الشديدة على بينلوب التي يغرم بها بدوره، وهو الذي يشكّل عقدة الرواية ووجه الشرّ المستطير فيها.
تتصاعد الأحداث وتقف عند مقتل موريا التي تترك مذكّراتها لتزيح اللثام عن قناع الخيال وتجسّد الحقائق المخفيّة في جسد الرواية. فقد كان لكاراكس أعداءٌ كثر، لكنّ عشقه لبينلوب التي حملت منه سفاحاً ـ دفع والدها، الذي يتّضح في نهاية القصّة بأنّه والد كاراكس أيضاً، لحبسها في غرفتها حتّى تلد وحيدة وتموت هي والمولود في نفس اليوم، فيقوم الأب بدفنها سرّاً ومن غير أن يعلم أحداً بموتها في قبو القصر.
ضعف وجبن
نكتشف في نهاية القصّة أنّ كاراكس هو نفسه الرجل المشوّه الذي يظهر مهدّداً لدانيال، وهو لم يمت ولكنّه احترق وتشوّه بعد مناوراتٍ كثيرة وحفرٍ آثمة حفرها له صديقه المحقّق فرانشسكو ليوقع به ويقتله، فكره نفسه وقام بتلف جميع كتبه ورواياته من الأسواق، فقد كان يعذّب ضعفه وجبنه الذي حرمه من بينلوب، ويعمّق الجرح في ثنايا روحه حتّى يموت كمداً وحسرة وحرقة على حبّه المستحيل.
يجد دانيال تشابهاً بين قصّته وقصّة كاراكس، فهو بدوره أحبّ شقيقة صديقه وحملت منه، فيقرّر أن يتفادى النهاية الدراماتيكيّة التي نبضت في حلق حياة الكاتب الدامية، وينتشل حبّه من الدمار ويتزوّج من حبيبته، ويتخطّى كاراكس صدمته ويعود إلى الحياة وتعود كتبه إلى الإنتشار، لأنّ الإبداع الحقيقيّ يلمع في عين الشمس ولو تجهّمت فصول الحياة، وتنتهي الرواية بدانيال نفسه يصطحب ابنه إلى مقبرة الكتب المنسيّة كما فعل أبوه من قبله، ليعيد ترتيب المرايا وليسير الكون في حلقته الدائريّة التي تبدأ دائماً من حيث انتهت.