واصَل محمود درويش إنجاز مشروعه الإبداعي مدجّجاً بالوعي بمفهوم الشعر، وما يتطلبهُ التجديد من التثوير في اللغة والخروج عن قيد الإكراهات التاريخية. بحيثُ لم يعد صوتاً ساكناً في مرحلة معيّنة ولا يمكن اختزال تجربته في حدود القضية على رغم أهميتها، إذ أدرك بأنّ الشعر التَعبوي لا يتّسِع للبعد الإنساني إنما ينطفىء قبل أن يعبّر عن الهموم الوجودية.
أبدعَ محمود درويش في توظيف الرموز الدينية للإبانة عن حجم الإجحاف الذي لحق بشعبه والتواطؤ والتطفّل على معاناته. هنا، تكفي الإشارة إلى قصيدة «أنا يوسف يا أبي» لفهم تَمكّنه من تطويع المعطيات التراثية في بناء عالمه الشعري، وبذلك يتمدّدُ المعجم الدلالي للشاعر. وصاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» هو من الشعراء الذين شهدَت نصوصهم تحوّلات ومنعرجات لافتة على مستوى بناء القصيدة والنضج الفكري، فكان أبعد ما يكون عن النمطية. فأثره الشعري بصفةٍ عامة لا يخلو من المراوغة والنحت لصياغات جديدة، إذ يقتفي المتابعُ في دواوينه الأخيرة مسلكاً فلسفياً.
نجح درويش في التعبير عن الفكرة العميقة بلغة شعرية شفّافة في النصوص التي تضمّنتها دواوينه الأخيرة: «لا تعتذر عمّا فعلت»، «أثر الفراشة»، و»لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي». إذ تقيمُ محتويات هذه العناوين علاقة تناصية ضمنية مع النصوص الفلسفية، بحيثُ يمكن قراءتها في السياق الشعري تارة مع ما للشعر من رشاقة وانخطاف، كما يصحُّ تأمّل المضامين تارة أخرى بوصفها مجالاً لإعادة النظر بشأن المفاهيم الحياتية. فصاحب «كزهر اللوز أو أبعد»، عندما يفترض سيناريو موقف الإنسان في ما بقي من حياته وهو أقل من اليوم، يضع المتلقّي بوجه اختبار إمكانياته على التمتّع بالوقت الذي يفصله عن النهاية. كما أنَّ عبارته «لي حكمة المحكوم بالإعدام» تؤكدُ العمق الفلسفي في تجربة درويش، فهو يقول إنَّ الحياة هشّة أكثر ممّا نتخيّل، لكن الوقتَ الذي نكسبه في هذا العالم يكون بمثابة ولادة جديدة. ويثير الشاعر أسئلة بشأن ما يَقع في صميم حياة الإنسان وهواجسه الفردية، من دون أن يغادر دهاليز السرّ. إذ نرى ثيمات بعض قصائده في ديوان «لا تعتذر عمّا فعلت» تدورُ حول الحلم وما يعنيه بالنسبة للإنسان، والشكل الذي تتّخذه الأشياء داخل أثير الحلم.
الماهوية
يَنفتحُ سؤاله الشعري عن ماهية الحلم، وتصبح معه المقاربة الشعرية أعمق من النظريات السايكولوجية بشأن الحلم، وهو ليس عبارة عن حِراك المكبوتات المختزنة في اللاوعي، بل قد يكونُ إمكانيةً للانزياح نحو فضاء مُتحرّر من كلّ ما يخنق الأنفاس النَزِقة. والملفتُ في النص، الموسوم بجملةٍ استفهامية مُضمرة دلالة التعجب «الحلم ما هو؟»، الصوَر المتوَلّدة من فن التشبيه الناضح بشحنة فنتازية. «الحلمُ ما هو؟»، ما هو هذا اللاشيء عابرُ الزمان، البَهي كنجمة في أول الحبِّ الشهي كصورة امرأة تُدَلِّك نهدها بالشمس؟ ما هو، لا أكاد أراه حتى يختفي في الأمس. هكذا يتناوَب الحلم بين تحويلات حسّية من خلال التشبيه ولا محسوسيته الخاطفة.
ولا ينصرفُ الشاعر في النصّ التالي «الآن، إذ تصحو تذكر» عن أجواء الحلم، إذ تتصاعدُ الإنفعالات أكثر بفِعل توظيف صيغة الإستفهام والطلب في بنية الجملة الشعرية، مع ما يتخلّلها من مقطعٍ يلمحُ إلى تَوهّج العالم الطيفي. يقول صاحب جدارية «كل ما يتحقق لا يعود حلماً... الشاعر والفنان يختنقان خارج الحلم». أكثر من ذلك، يَرحل درويش إلى «الظل» واصفاً طبيعته الحيادية حيثُ يسرد قصة لعبته مع هذا الشكل الرمادي. فأراد أن يَتبعهُ لكي يقع الشبيه على الشبيه فلا يرى أحدهما الآخر، ونقعُ في قصيدة «تنسى كأنك لم تكن» على شعرية النسيان والومضة.
مسلّة شعرية
لا يَسرد الشاعر سيرته خارج نصوصه الشعرية، وما يقوله المخرج الإيطالي فيلليني عن أفلامه: «إن كنت سأصنع فيلماً حول حياة شخص ما، فهي بالمحصّلة ستكون حياتي»، يَنسحبُ على علاقة معظم المبدعين مع موضوع أعمالهم، لا سيما الشعراء الذين يتّخذون من شخصيات أيقونية قناعاً أو رمزاً معبّراً عن ذواتهم العميقة.
وما قدّمهُ محمود درويش في قصيدته الشهيرة «لاعب النرد» عبارة عن سيرةٍ مسرودَة بالضمير الأول، لكن من المعلوم أنّ الإطناب لا يخدمُ التدوينة الشعرية، لذا تتوارَدُ تلميحات فائضة بقوّة العاطفة وزخم تعبيري دافق في سياق هذه المسلّة الشعرية. ولعلَّ مفردة العنوان وسيولة مداليلها تدفع للتأمل قبل العبور نحو تلافيف القصيدة.
لماذا لاعب النرد؟ وما علاقة العنوان بما عاشه الشاعر من التجارب المتنوّعة؟ فما ان نبدأ التطواف في بيئة النصّ حتى نجد أنفسنا أمام تكرار هذه المفردة، ما يعني أنّ اللعبة هي الثيمة الأساسية في وحدات القصيدة. بالطبع، عبارة لعبة النرد تُحيلنا إلى هراقليطس، وقد نقل عنه كلامه «أنّ الزمن طفلُ يلعبُ النَرد». إذاً، يؤسّسُ محمود درويش فلسفته للحياة على مفهوم اللعبة التي تتحرّكُ ضمن احتمالات الربح والخسارة، فيقول: «أنا لاعبُ النردِ أربح حيناً وأخسر حيناً، أنا مثلكم أو أقلُّ قليلاً». وفي هذا الإطار، تتقاطعُ مفردة الصدفة في دلالتها الإيحائية مع اللعبة، وإذا كانت اللعبةُ لن تقوم إلّا بوجود طرفين، فإنَّ الصدفة لها دور أساسي في حيثياتها: «ولدتُ بلا زفّة وبلا قابلة، وسمّيت باسمي مصادفةً، وانتميتُ إلى عائلة مصادفة، وورثتُ ملامحها والصفات وأمراضها». كما أنَّ الإنتماء الوجودي والمنشأ مُرتبط بمنطق الصدفة. كذلك، الحبُ يولدُ بفِعل الصدفة كأنّ محمود درويش يؤمن بما قاله سارتر انَّ «كلّ شيء يحدثُ بمنطق الصدفة وليس نتيجة للضرورة. كان يمكنُ ألاّ أحب الفتاة التي سألتني: كم الساعة الآن؟ لو لم أكن في طريقي إلى السينما...». ولا بأسَ من الإشارة إلى أنّ أجمل أغاني عبد الحليم حافظ عنوانها «صدفة».
قوّة الهشاشة
لا شيء حقيقياً سوى الصدفة على حد قول «بول أوستر»، وطالما تبدو الحياة سلسلةً من الصدَف، فذلك يؤكّد هشاشة لحظاتها بما فيها لحظة الحب التي لا تنمو إلّا على هشاشة القلب وخفّة التعبير.
«من سوء حظي أنّي نَجوتُ مراراً من الموت حبّاً، ومن حسن حظي أنّي ما زلتُ هَشّاً لأدخلَ في التجربة»، بناء على هذه المعطيات هل يمكنُ اعتبار محمود درويش مفتائلاً أو متشائماً؟
في الواقع، يفكّر الشاعر فوق ثنائية التفائل والتشاؤم، وهو لا يشغله سوى البحث عن البعد الجمالي في المشهد، حيث يقول: «حين تبدو السماءُ رمادية، وأرى وردةً نَتأَت فجأةً من شقوق جدارٍ، لا أقول السماء رمادية بل أُطيلُ التفرّسَ في وردةٍ وأقول لها: يا لها من النهار».
وما يطلبهُ الشاعر هو تحقيق الخفّة، وذلك بالتخلّص من سيناريو الإنتظار الرتيب. ويقول في قصيدته «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»: «ماذا أريد من الغد؟ ما دام لي حاضر يافِع أستطيع زيارة نفسي». تزدادُ فرصة التمتّع بالحياة برأي محمود درويش إذا عاش الإنسان بحكمة المحكوم بالإعدام. هنا لا مجال للسأم المزمِن، وهل يُفهم من ذلك بأنَّ الشاعر أصبح عدمياً؟ يمكن القول انّ محمود درويش يَميلُ إلى عدمية مَرحة، إذ كلّما توافَرت إمكانيةٌ للحبّ يتمّ إرجاء موعد الانتحار: «في وسعنا أن نحبّ وفي وسعنا أن نتخايَل أننا نحبّ لكي نُرجيء الإنتحار، إذا كان لا بُدَّ منه». زِدْ على ما مَرَّ، فإنّ الحب فرصة للتخفيف من ثقل الحقيقة باجتراح استعارةٍ، مع أنها عابرة، لكنها أكثر عمقاً من حقائق الحياة: «أضمّك، حتى أعود إلى عدمي، زائراً زائلاً. لا حياة ولا موت في ما أُحِسّ به طائراً عابراً ما رواء الطبيعة حين أضمكِ». تخلو فرص الحياة من التشويق وتتحول إلى حطام الخيبة أو نشوة، وسرعان ما تخلّف المَلل إذا لم يتمّ التعامل معها بمنطق اللعبة. فهذا ما تخلص إليه من تجربة محمود درويش.