حياة مجازية في «الرحلة الناقصة»
كه يلان محمد
Monday, 21-Sep-2020 06:36
كتابة السيرة الذاتية واستعادة الزمن الذي قد مضى، واستذكار الوجوه التي قد غابت، محاولة لتفحّص تجربة الذات ودورها وسط سيرورة الأحداث المتسارعة التي قد تتطلبُ مسافة، إلى أن يتمّ إدراك حيثياتها. وما يهمُّ في هذا السياق تحديد موقع الفرد ومساءلته لأفكاره، سواء بوصفه ذاتاً فاعلة في خياراتها أو مُنساقة بفعل المؤثرات الخارجية نحو مآلات معيّنة.

هذا عَدا عن مساع رامية لصياغة رؤية واضحة بشأن الظواهر التي تسود في بيئات مختلفة، وتحديد نمط الأفكار المطبوعة بإيقاع الأزمنة والتحوّلات الإجتماعية والسياسية، وما لها من تمثّلات على سلوكيات شخصية وشكل الحياة والتطلّعات المُستقبلية. أضف إلى ذلك، فإنَّ التقابل بين الأجيال والمراحل التاريخية يكون عنصراً هاماً في عملية سرد السيرة الذاتية، إذ كثيراً ما تتوارد علامات مكانية وشخصية تحيلُ إلى الاختلاف في المسلك الحياتي والتحوّل في البنية الفكرية داخل الكيانات الإجتماعية. وهذا المَلمح في التقاطع بين حياة الفرد وواقعه المتقلّب يبدو بالوضوح في ما ترويه الكاتبة والناقدة العراقية فاطمة المحسن في عملها السيري «الرحلة الناقصة»، إذ قدّر لها أن تكون معاصرة لزمن حافل بزَخم فكري وسياسي، ونشأت في مناخٍ أتاح لها معاينة بوادر صعود تيار ثقافي جديد يخالفُ أنصاره النموذج السائد في الكتابة وأساليب التعبير الملتوية، والشطحات السوريالية والغموص والصياغات المفضَّلة لدى الموجة الستّينية.

 

تاريخ الأدب العراقي

 

تاريخ الأدب العراقي برأي الكاتبة، عبارة عن حرب المواقع بين الأجيال، وكان التطاول على الروّاد جزءاً من الحروب الكلامية. وتلاحظ فاطمة المحسن في منفاها اللندني وجود أشخاص بين المثقّفين أرادوا الإنفصال عن القيَم المحليّة، والتماهي مع ثقافة الغرب. ولم يمتنع بعضهم من الإستخفاف بالأعمال الأدبية العراقية، كما أنَّ الإنطباع الذي تأخذه صاحبة «تمثّلات الحداثة في ثقافة العراق» عن أفراد من أبناء وطنها يشجّع على الإنقطاع بدلاً من التواصل.

 

وأكثر ما يزعج العراقي، بحسب رأي فاطمة المحسن، هو مناقشة مسلّماته. وما يلفت النظر هو حظوة الكحوليين والخارجين عن الأصول والشتّامين في الوسط الثقافي العراقي، إذ تقارنُ الكاتبة بين الشاعر العراقي وغيره من الجنسيات الأخرى في المظهر والطقوس والسلوكيات. كلّ ذلك الحديث لا ينفصل عن هموم الذات وخيباتها وتضاعفُ الغضب على قادة الحزب ومقايضتهم بأحلام الشباب والمناضلين.

 

مدن

حياة المرء امتداد لسيرة الأمكنة وهي ليست حاضنة للحدث فحسب، إنّما مكوّن أساسي في تشكيل الرؤى الفكرية وتحديد المسارات. تعودُ فاطمة المحسن إلى مدينة الناصرية التي ولدت فيها، مشيرةً إلى أنَّ مدحت باشا هو مَن أسّس الناصرية التي استعارت اسمها من الشيخ ناصر السعدون وهو قادم من بادية الجزيرة. تشهدُ المدينة في الخمسينات والستينات حراكاً سياسياً وتطوّراً على المستوى المجتمعي والثقافي، وكانت حسناء المدينة مي الدهش قد أجّجت قريحة العشّاق وجذبت إليها الأنظار. تعيدُ حكايات السينما الإيطالية عن فتاة القرية إلى ذهن الكاتبة صورة مي الدهش التي لم ترها إلّا مرّة واحدة. تتميّزُ مدينة الناصرية حسب قول فاطمة المحسن بالمكر والمراوغة، فالمعارك السياسية في بيئتها تسبقها موجة من الإشاعات والنكات. وما يؤشّر إلى تبدّل أجواء المدينة في المراحل اللاحقة هو تغيّر اسم مواقعها حيثُ يسمّي شارع «درب الهوى»، الذي كان يقعُ فيه بيت الكاتبة، بإسم أحد الشعراء. أكثر من ذلك، فإنَّ ثقافة الأرياف غَزت المدينة وتزايد عدد المنتحرين بين شبابها نتيجة بؤس الأحوال الإقتصادية. ما أن تبلغ كاتبتنا سن العاشرة حتى تنتقلُ وظيفة الوالد إلى بغداد وبالتالي يستقرّ أفراد الأسرة هناك، حيث تكمل فاطمة المحسن الدراسة الجامعية متخرّجة من كلية الآداب في الجامعة المستنصرية.

 

وهي في المرحلة الثانية من الكليّة، حين تباشر العمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون، هناك تتعرّف إلى النخبة المثقّفة، منهم: فالح عبد الجبار، وزهير الجزائري. ومن ثمَّ تنحو حياة الكاتبة الحزبية والمهنية منحى جديداً عندما تلتحقُ بجريدة «طريق الشعب» التي التَفَّ حولها المثقفون وأصبحت منبراً فكرياً. ويتطوّع كثير من الشباب المنتمين إلى الحزب الشيوعي للعمل في أقسام «طريق الشعب»، إذ تنجزُ الكاتبة تقارير نوعية عن الفلاحين والعمال والنساء. غير أنَّ ذلك يكلّفها قراءاتها واهتماماتها الأدبية، ولا تنتهي وظيفة فاطمة المحسن عند هذا الحدّ بل كلّفها الحزب بتدريس الشابات اللواتي ليس لديهنَّ معرفة بمبادىء الماركسية اللينينية. ومن بين القادة الشوعيين إستهوت روزا لوكسمبورغ قلب الناشطة الجامعية. تكتسبُ فاطمة المحسن دراية في التعامل مع محيطها، وتظهرُ في المواقف كلّها بصورة امرأة صارمة وصلبة، وهذا ما يحتّمهُ الإنخراط في العمل الحزبي والصحافي. عليه، تلمّحُ الكاتبة إلى مرارة تجربتها الأولى في الزواج، فكان العاشق قد هدّد بأن ينتحر إذا لم توافق على طلبه.

 

منفى

 

يتحول الوطن إلى هامش لتجارب المنفى، ترتحلُ الكاتبة بعد الخروج من السجن بين المدن إذ تعبرُ بالسليمانية مُغادرةً نحو إيران وتفترقُ عن طفلتها «نهار»، ولم تغامر بأخذها في رحلة شاقة إلى جبال وعرة، وصادف أنْ كان وصول الكاتبة إلى إيران متزامناً مع مرحلة مفصلية في تاريخ البلد، إذ سقطَ نظام الشاه وحلَّ مكانه نظام ثيوقراطي، إذ تشير المحسن إلى استماتة النساء في رفضهنَّ لأوامر رموز النظام الجدي،د وتبدأ ملاحقة الشيوعيين والعلمانيين في شوارع طهران، إلى أن يتّشحُ البلدُ بلون واحد وتنفردُ مجموعة بالسيطرة على مقاليد الحكم، تماماً كما حصل في العراق، إذ بعد تفكّك الجبهة الوطنية القومية خَلت الميادين لحزب البعث. يُذكر أنَّ الكاتبة ما بَرحت تقارن بين تكوين الشخصية العراقية ومواطن الدول والأماكن التي حلّت بها. والغريب في الأمر أنَّ فاطمة المحسن كانت قابعة بين جدران السجن، عندما يُلقي حارس بصحيفة في زنزانتها عنوان مانشيتها ينمّ عن قيام الثورة. والمؤثرُ في حياة الكاتبة إلى جانب تجربتها الصعبة مع المرض هو معاناتها في السجن إذ ذاقت قساوة التعذيب والتنكيل بجسدها النحيل من دون أن تعلن الإستسلام والتراجع قيد أنملة عن موقفها. ومن المفارقات أنّ هذه الإرادة في التحمّل تُكسبها احترام الجلّاد، ويدورُ حوار معبّر بينها وبين العقيد أبو سيف الذي يُقتَل في 2003. وما كان يشعر الكاتبة بحركة الحياة داخل السجن هو النَقر على الجدار الذي كان يفصلها عن صديقتها منال المالح.

 

وتَشِي لهجة الكاتبة وهي تتحدثُ عن تجربة السجن بالغضب، متساءلةً: ما الضَير لو وقعت وخرجت مبكرة في السجن؟ والحال هذه تستعيد فاطمة المحسن ملامح المدن التي أقامت بها إذ لم تنقطع عن بيروت وأجوائها الثقافية وطبيعتها الكوزموبوليتية، التي استضافت المناضلين والمعارضين من شتّى الجنسيات العربية والأجنبية، ووفّر فضاؤها مجالاً للتواصل الثقافي .كما أنّ لدمشق مكانة أثيرة لدى الكاتبة، فهناك بدأت قصة حبّها مع الباحث العراقي المعروف فالح عبد الجبار. وكانت بودابست محطّة مهمّة أيضاً في حياتها المعرفية إذ تنجز أطروحة عن التجديد في الشعر العراقي زادَ ارتباط فاطمة بلندن عقب تجربتها اليائسة مع المرض الذي قرّبها أكثر من إنسانية فالح عبد الجبار، كما أظهَر عن سمو المشاعر التضامنية لدى بعض الأصدقاء، ومنهم آهانيت سركيس.

 

عندما ترجعُ المحسن إلى بغداد بعد 6 أشهر من سقوط صدام، تشعر بأنها بيئة طاردة ويصعبُ عليها التآنس مع فضائها المتبدّل. وما يستحضرُه الذهن أثناء قراءة هذه السيرة، هو ما تسرده الكاتبة عن رؤية نفسها في الأحلام وهي تطير تارة وتسبح تارة أخرى، وما على القارئ سوى ربط ذلك بما راوَدت الناشطة الشيوعية من أحلام بخَوض غمار النضال في مستنقعات فيتنام وتشيلي وبردى الهور وفلسطين مزيّنة بنجمة حمراء. وما تستخلص إليه أنّ الأحلام التي كانت حياة مجازية ربما تبدّدت، وأصبح البحث عن أنظمة أقل دكتاتورية واستبداداً هو غاية منشودة بدلاً من التطلّع للعودة إلى أرض موعودة. لكن ما تمسّكت به فاطمة هو صلابة شخصيتها ورفضها أن تكون تابعة ولَو لأقرب الأشخاص.

الأكثر قراءة