رئيس الإتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال اللبنانيين MIDEL وعميد كلية إدارة الأعمال في جامعة القديس يوسف USJ
لقد مرّ أكثر من 45 يوماً منذ أن تمّ "عزل" ما يقرب من نصف سكان العالم، في محاولة لمنع أو على الأقل إبطاء انتشار الفيروس المستجد "COVID-19"، وهو قابل للانتقال بشكل سريع، كما خطير ومخيف للغاية.
ربما بدت الأيام الأولى من هذا الحَجر الإجباري للبعض، على انّها لحظات من الراحة، أو إجازة، أوقات كنا نبحث عنها عبثًا لفترة طويلة للقيام بمهام مؤجّلة من شهر لآخر، وحتى لسنوات، بسبب ضيق الوقت الدائم، هذا الوقت الذي لطالما اعتقدنا أنّه ثمين جدًا أو بالأحرى مكرّس لأولويات أخرى اعتبرناها حيوية وجوهرية.
لكن، كانت الفترة الثانية أثقل. بالفعل، بدأنا نفتقد روتيننا مهما كان. شعرنا بثقل الحدّ من التواصل البشري، وغياب الحياة الاجتماعية المحمومة. لم نرد تصديق هذا الواقع الجديد، محاولين إنكار هذه الحياة الغريبة. أردنا بأي ثمن أن نستيقظ من هذا الكابوس المذهل، الذي لم يكن بالإمكان التنبؤ به وتصوّره حتى في أسوأ مخيلتنا أو افتراضنا. لكن الأخبار كانت تتساقط علينا في جميع الاتجاهات ومن جميع الجهات: عبر شبكات التواصل الاجتماعي، التلفزيون، الإذاعة، المقالات والصحف والمجلات وعلى المواقع الالكترونية، أو حتى في "الندوات عبر الإنترنت"، التي لم نكن نعرف بوجودها قبل بضعة أسابيع، لتأتي وتؤكّد لنا هذه الحياة الجديدة.
أما المرحلة الثالثة، فكانت مرحلة التكيّف الإلزامي. بالفعل، بدأنا بإيجاد مكانة لنا في منزلنا الذي لم نكن نعرفه بما فيه الكفاية، واستبدلنا اجتماعاتنا بلقاءات عبر الإنترنت، والتي تضاعفت يوماً بعد يوم في التطبيقات التي تعلّمنا بسرعة كيفية استخدامها. أصبح التجوّل واستخدام سيارتنا عمل يحظى بتقدير ضئيل ... بعبارة أخرى، جسّدنا القول الشهير بأنّ "ما يجعل الانسان هو قدرته على التكيّف".
أما المرحلة الرابعة، فكانت الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر إنتاجية، لأننا بدأنا ندرك أنّ هذا العزل الإجباري كان أكثر سخاء مما كنا نعتقد. فهو علّمنا أن نحب بشكل مختلف؛ وان نستفيد الى أقصى درجة من اللحظات العائلية التي كنا نهملها والتي لا تقدّر بثمن؛ دفعنا هذا الحَجر إلى البحث في مخيلتنا لنصبح أكثر إبداعًا وابتكارًا وحتى أن نصبح مخترعين. ما أطلقنا عليه أيضًا اسم "الإغلاق الكامل" أي "Lock-Down"، فتح عقولنا ليمنحنا الوقت لقراءة الكتب التي لم نتمكن من تصفحّها بسبب ضيق الوقت، والكتابة، والقيام بالبحوث، والتفكير في النِعَم التي لم نكن ندرك بوجودها، والتأمل، والتفكير بشكل مختلف، والتركيز بشكل أعمق؛ وأيضاً وقبل كل شيء، منحنا الوقت لكي نصلّي ونشكر الرب الخالق على كرمه وهباته ونعمه المتعدّدة، التي لا نراها ولا نقدّرها بما فيه الكفاية...
ففي مثل هذه الأوقات نبدأ في الفهم بطريقة أفضل أهمية وقيمة الخلوات الروحية. هذا التمرين، الذي يعزلنا عن اضطرابات العالم، يجعلنا أقرب إلى حقيقة الرب وحقيقة العالم وحقيقتنا وحقيقة الآخرين؛ مما يساعدنا في الترحيب بالآخرين وقبولهم، كما يقدّمون أنفسهم دون الحكم عليهم. التأمّل الذي يُعدّ لإدراك وتلقّي جميع هبات الحياة: أفراحنا، معاناتنا، مشاريعنا، شكوكنا، صعوباتنا، أسئلتنا، مخاوفنا...
بالفعل، تساعد هذه الخلوات في ترتيب أفكارنا وردود أفعالنا، لكي ندرك ما هو الأكثر أهمية، ونميّز ما يجري في اتجاه إيجابي وما الذي يذهب في اتجاه سلبي. ولكن، هذه العزلة مفيدة أيضًا لإعداد والتفكير بالقرارات، الكبيرة أو الصغيرة منها، ما يسمح لنا بالمضي قدمًا في مسارات أكثر أمانًا ...
هذا التمرين، الذي هو عملية إنعزال عن العالم للدخول في الذات من أجل إيجاد الله الذي، كما يقول القديس أوغسطينوس في حق، "أكثر حميمية مع نفسي من نفسي" (كتاب الاعترافات الثالث). إنّ هذه العزلة ليست هروباً من العالم، بل بالأحرى هي ابتعاد عن العالم لكي نكون أكثر اصغاءً لما يقودنا، من أجل إعادة توجيه البوصلة لنكون أكثر إصغاء الى الله، ولأخينا الانسان وأخيرًا لأنفسنا. إنّ هذا الإصغاء بحاجة الى الصمت من أجل شحذ آذاننا في سعينا إلى الله. في الأساس ما هي هذه العزلة إن لم تكن البحث عن المعنى، معنى ما نعيش وما يجعلنا انساناً؟ وهكذا، فإنّ نظرتنا للعالم ومن حولنا تتغيّر، ونحن أكثر قدرة على قبول نِعَم الله. في هذا المنظور تصبح أفراحنا، معاناتنا، مشاريعنا، شكوكنا، صعوباتنا، أسئلتنا، مخاوفنا، إلخ، الهدايا التي تدفعنا للمضي قدماً. وهكذا، من العدو المرعب، تصبح الوحدة حليفة أو حتى صديقًة.
بذلك، نحن قادرون على استئناف رسالتنا على طرق جديدة، وفق معالم جديدة.
أولئك الذين أدركوا وكانوا قادرين على تحويل هذا العزل الإجباري إلى عزلة روحية، سيكونون محظوظين للغاية. وسيكون أكثر حظًا بعد، أولئك الذين لن ينسوا التجربة ودروسها، وسيعرفون كيفية ممارستها بانتظام في المستقبل.