أدرك صاحب «مدن لامرئية» بحَدسه ما هو مطلوب لتجديد فن الرواية في البناء والمضمون، وما يعيشه هذا الفن من الازدهار فيما تضع وتيرة الإحداثيات المتسارعة المفاهيم الفكرية والأجناس الأدبية الأخرى أمام تحديات جسيمة واحتمال الإنقراض، ولا يمكن تفسيره إلّا بقدرة النص الروائي على استيعاب أشكال وموضوعات جديدة، ولم تعد الرواية منصّة لمناقشة أوضاع اجتماعية، وليست حائطاً لشعارات نضالية وادّعاءات ايدولوجية، إنما أبوابها أصبحت مشرّعة بوجه التطوّر العلمي إضافة إلى إقصاء سلطة الرقيب بأنماطه المختلفة، وذلك من خلال الحيَل والتقنيات المتنوعة.
لذا، فإنّ ما يتداول بشأن أزمات تلقى لأشكال أدبية أخرى بالنسبة للرواية لا يبدو الأمر بهذه الدرجة من التعقيد بالنسبة لها، ولك تفسير خروج الرواية من دائرة أزمة شحّ القرّاء وغياب المُرسل بكونها فنّاً مرناً يتقبّل ما يتداول في مختلف الحقول، من العلمية والاجتماعية والسياسية والنفسية والتاريخية والفلسفية في تركيبته بصَيغ وأشكال مُتباينة، هذا علاوة على أنّ الرواية تتفاعل مع غيرها من الفنون.
منبر الرواية
يتّسع إطار الرواية لتقنيات متنوّعة، كما تحوّل كلّ الهموم والهواجس الإنسانية إلى محور في منظومتها السردية. لذلك، ليس من المتوقّع على المدى البعيد أن يصل فنّ آخر إلى ما وصلت إليه الرواية من القدرة على استيعاب تشعّبات الحياة، وهضم المُعطيات الجديدة، ومُحايثة التحوّلات الراهنة، وإقامة التواصل مع الفنون الجماهيرية مثل السينما والدراما. زِد على ذلك، فإنّ انفتاح الرواية على فضاءات متنوّعة، أسهَم في تقويض ثنائية النخبة والعامّة. مع الرواية لن يكون الفن مُحتكَراً لطبقة أو فئة عمرية معيّنة، بل يتمثّل السرد الروائي لتطلّعات الهامش كما يعبّر عن الرؤية النخبوية في آن واحد.
عطفاً على ما سلف ذكره، فإنّ كل ما يشهده الواقع من تطوّرات متتابعة، ينعكس في سلسلة من ثيمات متنوّعة داخل مبنى الرواية. لذا، فإنّ ظهور الشبكة العنكبوتية وما تبعها من العوالم السيبرانية فتحَ مساحات وإمكانات جديدة لكتابة الرواية، بعكس ما يُقال حول الفنون الأخرى بأنّ مدّها آخذ في الانحسار جرّاء تَصاعد ظاهرة الرقمنة، إذ بَدا الواقع الإفتراضي مكوّناً أساسياً في كثير من الأعمال الروائية، ويَعتمد عليه المؤلفون بوصفه عنصراً تشويقياً أو وسيلة للتنوّع الأسلوبي. ومن الملاحظ أنّ معظم الروايات التي صدرت عقب ما يسمّى بالربيع العربي، تَبنّت وسائل التواصل الاجتماعي قالباً لتمرير الحوارات والرسائل بين شخصياتها، كما يميلُ عدد من الروائيين إلى تضمين أساليب خَبرية وصيغة التقارير الصحافية في مؤلفاتهم.
مستويات متفاوتة
وما يجب ذكره بهذا الصدد، هو استناد الروايات العربية في السنوات الأخيرة إلى بنية المدوّنة، والتمسّك بالتجريب والنصوص الموازية، ما أثار السؤال عن احتمالية تنميط البناء الروائي.
من المعلوم أنّ مستويات الإبداع تتفاوَت لدى الكُتّاب الذين راهنوا على بنية المدوّنة من خلال توظيف الوثائق والمخطوطات والرقائق، وما يتبادرُ إلى الذهن عندما تفتّشُ عن الأعمال الناجحة في اختيار هذا اللون السردي هو «فهرست» لسنان أنطوان، حيث يتابع المتلقّي خَطّين للسرد. ما كتبه ودود عبد الكريم، وهو بائع للكتب، بالتوازي مع رواية الأستاذ الجامعي نُمير، وسبق للكاتب المصري يوسف زيدان أن اتّبَع الأسلوب نفسه في رواية «عزازيل»، التي يوهِمك مؤلّفها بأنّ ما تقرأه ليس سوى ترجمة لألواح مكتوبة باللغة السريانية، ولجأ الكاتب والروائي السوري هيثم حسين في روايته «عشبة ضارّة في فردوس» إلى كشف نَسق العقل المخابراتي عبر تقنية ميتا السرد، حيث تَستبطن الراوية دواخل شخصية المساعد أوّل، عندما تقرأ محتويات دفتره.
الرواية والصورة
لا تتوقف المحاولات لنَحت صياغات جديدة عند هذا الحد، بل تتوالى عملية تَسنين أشكال جديدة في البناء الروائي. ما يجدر إبرازه في هذا الإطار هو الاهتمام المُتزايد بالمستوى البَصري لدى الروائيين العرب بالإحالة إلى الصوَر، سواء أكانت فوتوغرافية أو تشكيلية، لسدّ فجوات الذاكرة.
طبعاً إنّ علاقة الرواية مع عنصر الصورة تبدأ من الغلاف. يُحدّد أرغون أبادوري دور الصورة أساساً في إمداد الخيال بالقوة وبَث الطاقات الإيحائية، ويُشار إلى أنّ أول مَن دَشنّ استخدام الصورة ثيمة رئيسية في أعماله الروائية هو الكاتب الفرنسي باتريك موديانو، إذ يتخيّل المتلقّي أحياناً بأنّ الصورة تحلّ مكان الشخصيات الأساسية في وصفته السردية، وهذا الإجراء تراه بالوضوح في رواية «شارع الحوانيت المُعتمة» و«آحاد أغسطس»، إذ انّ في العملين تقوم الحبكة على فكّ ألغاز الصورة.
كما هو معروف، إنّ الصورة تدرج ضمن ممارسات سيميائية تؤوّل باعتبارها وعاءً للمعنى، وتسرّبَ هذا الأسلوب إلى تضاعيف الرواية العربية، إذ تعدّ الصورة الفوتوغرافية من الأدوات التي يعوّل عليها الروائي العراقي سعد محمد رحيم في «مقتل بائع الكتب» لإجلاء الغموض حول شخصية البطل. كذلك، برعت الكاتبة السورية مها حسن في مَد روايتها «مترو حلب» بمزيد من عناصر التشويق، وذلك عندما تثير صورة آمنة شكوك البطلة سارة إذ تَتفاجَأ الأخيرة بالتشابه المذهِل بينهما عندما كانت الخالة في سنّها، بهذا تَتوارد الأسئلة لدى المتلقّي حول ما خُفِي في علاقة الاثنتين، ولا تُفتحُ مغاليق ما أوحَت به الصورة من أسئلة مُلغزة إلّا بمتابعة ما سجّلته الخالة على الكاسيتات.
واحتفَت لينا هويان الحسن بدورها في فن الفوتوغراف في رواية «الذئاب لا تُنسى»، إذ انها تستعيد تاريخ الصور العائلية، حيث إنّ مُعايَنة الساردة لمقتنيات وصور رابضة على جدار البيت تُكمل نواقص ما يترشّح من الذاكرة، كما تُؤثّث جزءاً من برنامجها السردي في «بنت الباشا» بناءً على إيحاءات الصورة.
قبل أن نقفلَ قوس هذا الموضوع لا بُدّ من الالتفات إلى تجربة الروائي العراقي خضير فليح الزيدي في تعجين الصورة بالمادة السردية، حيث إنّ مقاربته تأتي ناضجة على هذا المستوى في رواية «الملك في بيجامته»، وتمكّن في إيهام المتلقي بأنّ ما يتابعه من المعلومات مُستقاة من الصور، خصوصاً ما يتعلّق منها بملابسات مقتل العائلة المالكة في العراق، إذ يعهدُ مؤلّف «فاليوم عشرة» دور البطولة في ثلاثة أقسام من روايته الجديدة إلى الفوتوغراف.
هذا ما عدا أنّ عتبة العنوان تعدّ امتداداً لظلال صورة الملك، عشيّة مقتله. ما ينبغي قوله إنّ ما تناوله هذا المقال ليس سوى مدخل لمحاور متعالقة بالسرد الروائي، قد تتطلب مزيداً من البحث والدراسة.