تذكرنا الرواية بقصة «آلام فيلتر» للكاتب الألماني غوته، لأنّها تحتوي على ركيزة واحدة، وهي العشق المستحيل، وقد وجّه فيلتر خلال روايته مونولوج السرد إلى صديقه المقرّب من خلال رسائل نصيّة أرسلها إليه بالبريد، أمّا بطل منيف فقد وجّه السرد للقارئ ثائراً مستنكراً على تأفّفه المتوقع من رجلٍ عشق امرأة متزوجة وخالف ناموس الشرع، وإلى رجال الدين الذين سخروا من تفكيره الذي يحكم على الخطيئة من غلافها دون التوغّل إلى مضمونها للتأكّد من بيّناتها.
وقد عشق فيلتر امرأة متزوجة لم تبادله الحب أو كادت، لكنّها عدلت عن الأمر بسبب التزامها مع زوجها ووفائها له، وتسنّى أيضاً لبطل منيف أن يدوس على المحظورات ويهيم بامرأة متزوجة تدعى ليليان، التقاها مع زوجها وأطفالها في فندقٍ جبلي، قصده بعد أن ساءت حالته الصحيّة، فشجعته حبيبته ميرا على تغيير الجو في الجبل لتنشّق الهواء النظيف.
ولم يكن وفيّاً لميرا طوال فترة علاقتهما، وهي كذلك، إذ ربطتها علاقة بزميلٍ لها في العمل، ولكنه لم يكترث بالأمر، وقد التقى عند وصوله إلى الجبل بامرأةٍ يقيم معها علاقة عابرة تدعى رادميلا ولكنها سرعان ما هجرته عندما التقت برجلٍ آخر أعجبها هناك، وأقامت معه علاقة.
وأثناء تجوّله وحيداً في الفندق وخارجه، يلتقي بليليان التي تقلب حياته رأساً على عقب. فهي امرأةٌ حزينة، تضجُّ في عينيها سحبٌ رماديّةٌ مغبّشة، وتتمايلُ ابتسامةٌ شاحبةٌ على شفتيها، تغصُّ بلجج الحزن، وتترجرجُ باليأس.
لم يعرف إذا كان الحزن هو الجاذب الرئيسي إليها، ولكنه وجد نفسه عاشقاً محبوساً في قمقم الوله البائس. فهو يمتلئ حبّاً بلا رادع ومن دون أن يتكلم معها، فقط عيناها تتكلمان، وتسلّط عليه شهب الحب اللامرئي، ولكنه المحسوس عميقاً في القلب.
المرة الوحيدة التي تسنّى له أن يقترب منها، هي خلال الحفلة التنكرية التي أقامها الفندق ليلة رحيلهما عنه، إذ راقصها ومسَّ كتفها ويدها دون أن ينبس إلا بكلماتٍ قليلة. ولكنّه ودّعها والهيام يربض في أعماقه قويّاً كالمارد، وهو أمرٌ مستغربٌ من رجلٍ له علاقات نسائية متشعّبة وعميقة المدى وكثيرة العدد، وقد أقنع نفسه بأنّ هذا الفيضان الأعمى الذي اجتاح حواسه هو الحبّ اللامحدود، وجرّده من سهم الإرادة.
يعود في اليوم التالي إلى حياته في المدينة، فلا يلقى ميرا بالشغف المتوقع، بل يزدريها لأنّه يلمح بريق الخيانة في عينيها، ويدرك بأنّها قامت بخيانته في غيابه مع صديقها في العمل كالمعتاد، ويقوم بمعاملتها بفتورٍ وجفاء حتى تهجره جزئيّاً. فيلجأ إلى صديقة أخرى يقيم معها علاقة جسدية كلما احتاج إليها، ولكنه يملّ منها بعد أيام قليلة ويطردها بطريقةٍ غير مباشرة.
يحسّ بأنّه يخسر الجميع بتصرفاته العشوائية، ويدرك أنّ ليليان هي السبب، فقد سكنت حواسه بكاملها، بافتتانٍ لجوجٍ أقرب إلى الجنون، فيبدأ رحلة البحث عنها في المدينة، يذهب إلى المحلات ودور السينما ويقصد المسارح، والحدائق العامة علّها تأتي مع أطفالها للعب، وينتظر ساعاتٍ طويلة في محطات القطار دون أن تأتي، ولكنه يصرّ على المكوث لزمنٍ طويل ولا تأتي. حتى يلمحها بغتة في الباص الموازي للترام الذي تركبه، فتأخذه الدهشة وتشلّه الفرحة، ويسرع للنزول في المحطة التالية علّها تنزل بدورها ليلتقيا، ولكنه لا يراها. ثم يلمحها ذات يوم وهو يهمُّ بقطع الشارع في الترام فيهرول نحوها وقد عرّض نفسه للموت بسبب سيارة عابرة، ولكن الترام يتحرّك بسرعة ويرحل تاركاً له الفراغ.
اليأس من لقائها يدفعه للكفّ عن البحث عنها والتفرّغ لدراسته، حتى ينتهي من دراسته الجامعية، ثم يأتي اليوم الذي يعود فيه إلى بلده، فيودّع جميع أصدقائه وصديقاته الذين يتوجّهون معه إلى محطة القطارات. وإذ به يلمحها في القطار المعاكس لمحطة قطاره، كانت تجرّ طفلها الأصغر في يدها وفي يدها الأخرى تمسك بحقيبة السفر، فيهرول نحوها ناسياً نفسه ودقات قلبه تعلو بخفقٍ آسر، وتأخذها الصدمة فتترك حقيبتها وتركض نحوه أيضاً، ويقفان أياديهما متشابكة، وقلباهما يخفقان بلا أمل، ويسألها قبل الرحيل أن تترك له عنوانها ليراسلها فتردّ بإجابة مقتضبة تختصر المأساة والمصير :»لا فائدة».
كان السفر بكحل الفراق قدرهما الأعمى منذ البداية وحتى النهاية، فيعيش بطل الرواية بقيّة عمره في ذكرى ليليان، وإذا كان بطل فيلتر قد انتحر عشقاً من أجل شارلوت، فقد آثر عبد الرحمن منيف أن يترك النهاية حزينة تشبه الموت بلحنه الجنائزي، الذي يعيش على ذكرياتٍ خاطفة، لعاشقٍ خسر معبودته وتلوّى من سموم العشق حتى الثمالة، ولم يسكب في كأس المرارة إلا الخيبة والرحيل الدامي.
عبد الرحمن منيف كاتبٌ متمكّنٌ من حواشي السرد وفنون النص، يتحدّث عن الحب في ثورةٍ جنونيّة، ويعالجه من منطق العاشق نفسه، حتى يقدّم الصورة بشكلٍ منسوخٍ ودقيق، يمطُّ بمهارة اللغة الخبرية والوصفية بأسلوبٍ رومانسيٍّ يشدُّ المتلقي ويجعل الكلمات تنسكبُ بتشويق وتحفيز للمخيّلة.