سيرة مسلم في حانة آرتين... إثارة لا تبلغ النشوة
راكيل عتيِّق
Tuesday, 17-Oct-2017 00:05
يعتصر علي نصار مُكوّنات عامل الخداع المشروع في «سيرة مسلم في حانة آرتين» من عنوان الرواية إلى آخر حرفٍ فيها، مُستخدِماً مفاتيح جذب لمختلف اهتمامات قرّاء الرواية. هذا الاستخدام المُفرط لعناصر الجذب أنتج رواية مُشوّقة من حيث الشكل والمضمون، ولكنه أفقد السردَ سلاسَته والربط الروائي انسيابيته في أكثر من فصل.
المضمون الهادف رغم تركيبته غير الكاملة التناسق يُظهِر على لسان شخصيات الرواية عمق ثقافة المؤلف وبُعد إنسانيته وسخريته الذكية. الرواية إنسانية نسوية، تحرّض على التحرر من الانغلاق وتشجّع على ثورات ذاتية.
الاكتفاء بالإضاءة الحقيقية على صفحة من تاريخٍ مضى والإشارة المباشرة إلى جزء من واقع مستمرّ من دون دلف النظريات ودفق المواعظ، من خلال حكايات فكرٍ وسُكرٍ وجنس... يحرّك العقول وينشّطها لا الغرائز.
جذب وإثارة
مفتاح جذب القارئ لِفتح الرواية عنوان مثير، وإن كان المكتوب لا يُقرأ من عنوانه. عنوان رواية علي نصار «سيرة مسلم في حانة آرتين» يحمل مفاتيح عدّة تثير حشرية قرّاءٍ متنوّعي الاهتمام ومختلفي الغايات. كلمة مُسلم بعد اشتداد موجة التطرف عالمياً باتت مغنطيساً يجذب الكثيرين، وكيف إن كانت سيرة مسلم في حانة، حيث «الفسق والحرام والكفّار».
الرواية سيرتان، سيرة ضمن سيرة، سيرة شاب يكتشف سيرة والده «مسلم». في 300 صفحة يتبع القارئ مع الراوي الشاب الذي يسكن في المانيا وعاد إلى لبنان لاكتشاف سبب طلاق والديه سيرة «مسلم إبن أبو مسلم»، فيكتشف القارئ الذكي من بداية سيرة مُسلم أنّه والد الراوي الشاب، إلّا أنّ الراوي لا يكتشف ذلك بمفرده، ما يُظهره غبياً، كما عند عدم اكتشافه ماهية علاقة والدته بزينب، على رغم أنّه يبدو شديد الذكاء في مواقف أخرى. وهذا التناقض خفّف من وهج عنصرَي المنطق والمفاجأة في الرواية.
مضمون الرواية مُميّز ويُقدّم مقاربة خاصة لحالة الشيوعيين اللبنانيين القدماء أو المُنكسرين. مقاربة نفسيّة اجتماعيّة اقتصاديّة سياسية. شلّة من الرفاق يجتمعون في حانة آرتين في منطقة الحمرا في بيروت، أواخر التسعينات. الحمرا بما ترمز إليه من ملتقى الشيوعيين والمثقفين والمفكرين ومختلف الجنسيات. الحمرا موطن المسارح وصالات السينما والمقاهي والحانات المميزة.
من خلال سيرة كلّ شخص من الشلة التي يبدو أنه لم يعد يجمعهم إلّا السُكر والخمر، يكشف المؤلّف جوانب مهمّة وشيّقة من تاريخ بيروت وفئات مجتمعاتها. تتعدد تيمات الرواية التي تنطلق من تيمة رئيسة هي الإدمان. الإدمان والتطرف.
الإدمان بمعناه الواسع لا الضيق، الذي يعتصره المُدمن إلى آخر حدود النشوة، والذي بدوره يعتصر كلّ ما في داخل المُدمن من قدرات وأساليب، ما يُعرّي موضوع الإدمان أسباباً ونتائج، كما يؤدّي إلى تعرية المُدمن لتظهر كلّ مكنوناته الجسديّة والنفسية. الإدمان على البورنو، الإدمان الديني، الإدمان على الخمر، الإدمان على الحب، الإدمان على الظهور، الإدمان على قضيّة، الإدمان على الاستغلال... الإدمان على الوهم.
الواقع المريض
الاصطفافات السياسية العقائدية الطائفية تُطرح بواقعيتها في هذه الرواية كمُسبِّب ونتيجة. الزيجات-المصلحة، الصداقات-المصلحة، الفُقر الشريف، الطمع، حكايات الحرب الأهلية ومسار أبطالها «زعران الشوارع» ومصيرهم بعد انتهاء الحرب، الثراء غير المشروع، التفكك الأسري... والمثلية الجنسية، هي إشكاليات الرواية وحكايا أبطالها مُسلم وزوجته نيكول وابنهما وزينب والهرش وعيسى وبولس.
يعرض المؤلّف المواقف المختلفة بأقصى تطرّفها لمؤيّدي ومعارضي سياسة رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري و«حزب الله» والشيوعية والرأسمالية... علي نصّار لا يُقدّس أو يُشيطن أي شخصية في روايته. الظالم والضحية هو كلّ إنسان. إنّما يظهر جلياً اتخاذ المؤلّف مواقف مبدئية من مواضيع حياتية ما زالت شائكة ليومنا هذا في مجتمعات عديدة، وخصوصاً في المجتمعات اللبنانية.
مواقف تنويرية ذكية. آراء مباشرة بقالبٍ أدبيّ جميل ومضمون فكري ثوريّ وقلم متحرّر من أي تطرّف وغير مُقيّد بـ»المجتمع السّوي». «الطلب من الناس أجمعين ان يكونوا نسخة عنك هو الشذوذ بعينه... وهذا ما لن تقبله الطبيعة».
الحوار بين الراوي ووالدته في نهاية الرواية، يختصر واقع أبطال الرواية المريض، وواقع مجتمعاتنا المريض. بعد أن اتهمها بالخداع والعهر، تنير بصيرته التي أعمتها الأفكار المُعلّبة والتنميط البدائي: «تقول عن أمك عاهرة؟! شاذة؟!... قُل لي من هو الطبيعي؟!
والدك الذي كان يتلصّص علينا ليستمتع برؤية امرأتين تتحابّان؟... من هو الطبيعي؟ الهرش الذي يبحث عن المنكسرات المسكينات لبيعهنّ أوهاماً بأثمان باهظة من أجل تمويل مقامراته؟ أم عيسى السعيد؟! الذي يستعرض وسامته على مدار الساعة ثم يذهب ليستمني آخر الليل؟! أم بولس الذي يحاضر في الحب العذري، طيلة الوقت، ثم يتحرّش بطالباته ولا يُفوِّت فرصة لملامستهنّ؟!».
زينب هي المرأة الجذابة المغوية بجمالها وأنوثتها وذكائها وثقافتها وقوّتها. زينب والحمرا قُبلتا إدمان أعضاء الشلّة. زينب شذّت عن تقاليد وعادات قريتها الجنوبية وتحرّرت من حملِها شرف عائلتها في عمرٍ صغير. الحمرا شذّت عن تقاليد وعادات مُحدّدة لكلّ منطقة في لبنان. الحمرا التنوّع. زينب تستوعب الجميع لكنها عصية على الجميع.
الحمرا كذلك. «سيرة مسلم في حانة آرتين»، الصادرة عن دار النهضة العربية، 2017، شاذة كذلك عن التعليبات الجاهزة المُغلّفة، مثيرة شكلاً ومضموناً، إنما إثارتها لا توصل كلّ قارئ إلى لذة النشوة الأدبية، ولكنها تغويه لانتظار الرواية التالية للكاتب والموسيقي علي نصّار.
الاكتفاء بالإضاءة الحقيقية على صفحة من تاريخٍ مضى والإشارة المباشرة إلى جزء من واقع مستمرّ من دون دلف النظريات ودفق المواعظ، من خلال حكايات فكرٍ وسُكرٍ وجنس... يحرّك العقول وينشّطها لا الغرائز.
جذب وإثارة
مفتاح جذب القارئ لِفتح الرواية عنوان مثير، وإن كان المكتوب لا يُقرأ من عنوانه. عنوان رواية علي نصار «سيرة مسلم في حانة آرتين» يحمل مفاتيح عدّة تثير حشرية قرّاءٍ متنوّعي الاهتمام ومختلفي الغايات. كلمة مُسلم بعد اشتداد موجة التطرف عالمياً باتت مغنطيساً يجذب الكثيرين، وكيف إن كانت سيرة مسلم في حانة، حيث «الفسق والحرام والكفّار».
الرواية سيرتان، سيرة ضمن سيرة، سيرة شاب يكتشف سيرة والده «مسلم». في 300 صفحة يتبع القارئ مع الراوي الشاب الذي يسكن في المانيا وعاد إلى لبنان لاكتشاف سبب طلاق والديه سيرة «مسلم إبن أبو مسلم»، فيكتشف القارئ الذكي من بداية سيرة مُسلم أنّه والد الراوي الشاب، إلّا أنّ الراوي لا يكتشف ذلك بمفرده، ما يُظهره غبياً، كما عند عدم اكتشافه ماهية علاقة والدته بزينب، على رغم أنّه يبدو شديد الذكاء في مواقف أخرى. وهذا التناقض خفّف من وهج عنصرَي المنطق والمفاجأة في الرواية.
مضمون الرواية مُميّز ويُقدّم مقاربة خاصة لحالة الشيوعيين اللبنانيين القدماء أو المُنكسرين. مقاربة نفسيّة اجتماعيّة اقتصاديّة سياسية. شلّة من الرفاق يجتمعون في حانة آرتين في منطقة الحمرا في بيروت، أواخر التسعينات. الحمرا بما ترمز إليه من ملتقى الشيوعيين والمثقفين والمفكرين ومختلف الجنسيات. الحمرا موطن المسارح وصالات السينما والمقاهي والحانات المميزة.
من خلال سيرة كلّ شخص من الشلة التي يبدو أنه لم يعد يجمعهم إلّا السُكر والخمر، يكشف المؤلّف جوانب مهمّة وشيّقة من تاريخ بيروت وفئات مجتمعاتها. تتعدد تيمات الرواية التي تنطلق من تيمة رئيسة هي الإدمان. الإدمان والتطرف.
الإدمان بمعناه الواسع لا الضيق، الذي يعتصره المُدمن إلى آخر حدود النشوة، والذي بدوره يعتصر كلّ ما في داخل المُدمن من قدرات وأساليب، ما يُعرّي موضوع الإدمان أسباباً ونتائج، كما يؤدّي إلى تعرية المُدمن لتظهر كلّ مكنوناته الجسديّة والنفسية. الإدمان على البورنو، الإدمان الديني، الإدمان على الخمر، الإدمان على الحب، الإدمان على الظهور، الإدمان على قضيّة، الإدمان على الاستغلال... الإدمان على الوهم.
الواقع المريض
الاصطفافات السياسية العقائدية الطائفية تُطرح بواقعيتها في هذه الرواية كمُسبِّب ونتيجة. الزيجات-المصلحة، الصداقات-المصلحة، الفُقر الشريف، الطمع، حكايات الحرب الأهلية ومسار أبطالها «زعران الشوارع» ومصيرهم بعد انتهاء الحرب، الثراء غير المشروع، التفكك الأسري... والمثلية الجنسية، هي إشكاليات الرواية وحكايا أبطالها مُسلم وزوجته نيكول وابنهما وزينب والهرش وعيسى وبولس.
يعرض المؤلّف المواقف المختلفة بأقصى تطرّفها لمؤيّدي ومعارضي سياسة رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري و«حزب الله» والشيوعية والرأسمالية... علي نصّار لا يُقدّس أو يُشيطن أي شخصية في روايته. الظالم والضحية هو كلّ إنسان. إنّما يظهر جلياً اتخاذ المؤلّف مواقف مبدئية من مواضيع حياتية ما زالت شائكة ليومنا هذا في مجتمعات عديدة، وخصوصاً في المجتمعات اللبنانية.
مواقف تنويرية ذكية. آراء مباشرة بقالبٍ أدبيّ جميل ومضمون فكري ثوريّ وقلم متحرّر من أي تطرّف وغير مُقيّد بـ»المجتمع السّوي». «الطلب من الناس أجمعين ان يكونوا نسخة عنك هو الشذوذ بعينه... وهذا ما لن تقبله الطبيعة».
الحوار بين الراوي ووالدته في نهاية الرواية، يختصر واقع أبطال الرواية المريض، وواقع مجتمعاتنا المريض. بعد أن اتهمها بالخداع والعهر، تنير بصيرته التي أعمتها الأفكار المُعلّبة والتنميط البدائي: «تقول عن أمك عاهرة؟! شاذة؟!... قُل لي من هو الطبيعي؟!
والدك الذي كان يتلصّص علينا ليستمتع برؤية امرأتين تتحابّان؟... من هو الطبيعي؟ الهرش الذي يبحث عن المنكسرات المسكينات لبيعهنّ أوهاماً بأثمان باهظة من أجل تمويل مقامراته؟ أم عيسى السعيد؟! الذي يستعرض وسامته على مدار الساعة ثم يذهب ليستمني آخر الليل؟! أم بولس الذي يحاضر في الحب العذري، طيلة الوقت، ثم يتحرّش بطالباته ولا يُفوِّت فرصة لملامستهنّ؟!».
زينب هي المرأة الجذابة المغوية بجمالها وأنوثتها وذكائها وثقافتها وقوّتها. زينب والحمرا قُبلتا إدمان أعضاء الشلّة. زينب شذّت عن تقاليد وعادات قريتها الجنوبية وتحرّرت من حملِها شرف عائلتها في عمرٍ صغير. الحمرا شذّت عن تقاليد وعادات مُحدّدة لكلّ منطقة في لبنان. الحمرا التنوّع. زينب تستوعب الجميع لكنها عصية على الجميع.
الحمرا كذلك. «سيرة مسلم في حانة آرتين»، الصادرة عن دار النهضة العربية، 2017، شاذة كذلك عن التعليبات الجاهزة المُغلّفة، مثيرة شكلاً ومضموناً، إنما إثارتها لا توصل كلّ قارئ إلى لذة النشوة الأدبية، ولكنها تغويه لانتظار الرواية التالية للكاتب والموسيقي علي نصّار.
الأكثر قراءة