"أنشودة المقهى الحزين": حميمية أشياء بسيطة
كه يلان محمد
Tuesday, 16-May-2017 00:00
يستمدّ كلّ عمل روائي خصوصيّته من الموضوع الذي يدور حوله، وليس هناك تصنيفٌ لتلك الموضوعات وفقاً لقواعد مسبَقة، بل ما يجعل أيّ موضوع مادة روائية هو قدرة الكاتب على سبكه في قالب سردي وإيجاد آلية مناسِبة لصياغته الشكلية.
لا يأتي نجاح المُؤلَّف الروائي من التنقّل بين أزمنة مختلفة وحواضن مكانية متعدّدة، بقدر ما يكون الأمرُ متوقفاً على ذكاء الكاتب في خلق الشعور لدى المُتَلَقي بإنه يُعيدُ إكتشاف العناصر المركّبة للحياة الواقعية، من خلال ما يسردهُ الروائي في مُنجَزه السردي، ويلتمس ميزة مُحتجبة في أشياء بسيطة.
ومن هنا لا يبحثُ المتلقي عن ثيمات معيّنة طالما هو على موعد للتعرّف الى الجانب الحميمي في ما أهملتهُ الذائقة المُستهجَنة، ما يحرّكُ شريط السرد في رواية "أنشودة المقهى الحزين" للكاتبة الأميركية كارسن ماكالرز، الصادرة عن مسكيلياني 2017.
زائر الليل
تقدّمُ لك كارسن ماكالرز طبيعة الحياة في إحدى البلدات الأميركية حيثُ تدرك للوهلة الأولى خلوَّ العمل من النتوءات والحشو. تلجأُ الكاتبةُ إلى تقنية الحذف المباشر وتفقزُ على مُدَدٍ زمنية طويلة لذا يكون ما هو أساسي وجوهري في العملِ ماثلاً في مجال إهتمام القارئ.
تبدأُ الرواية بجملةٍ تُعَمّق لديك ما توحي به عتبة العنوان من أهمية عنصر المكان وما يُخيّم على فضاء العملِ من أجواء كالحة، وإيقاع يراوح بين سعادة خجولة وحزن غليظ.
يسرد الراوي حياة الآنسة أميليا وهي توارثت عن أبيها متجراً لبيع العلف وذرق الطيور والسلع الغذائية. تتقاطع يوميات سيرة هذه السيدة الموسرة مع يوميات البلدة الكئيبة، إذ إتسمت الحياة بالرتابة وتكرار المشاهد بجانب المتجر الذي تقطر فيه أميليا الحولاء الشراب.
صاحبة المتجر تعيش وحيدة وحققت مكاسب مالية كبيرة بحيثُ تؤهلها أموالها لأن تكون عضواً في الكونغرس على حدّ وصف الراوي لولا ولعها بتقديم الدعاوى القضائية حول مسائل في غاية التفاهة. لكن يقعُ ما يخلّص مسار السرد من الركود ويشرّع الباب على إحتمالات وتوقعات لدى المتلقي، وذلك عندما يصل رجلٌ أحدب إلى متجر البلدة ويبكي على مرأى السيدة أميليا.
القادم شخص غريب الأطوار يدعي بأنَّه إبن خالة أميليا ويأخذ بشرح تفاصيل صلة القرابة بينه وبين السيدة الغنية، فيكسبُ الرجلُ بشق الأنفس مكاناً لنفسه عند إبنة خالته.
إختفاء غامض
ما يثير إستغراب أهل البلدة ويعطيهم الفرصة للإسترسال في إفتراضاتهم وتخميناتهم هو تواري الأحدب عن الأنظار لعدة أيام، حيثُ يتداولون فيما بينهم عدة سيناريوهات منها مقتل الغريب على يد تلك المرأة ودفنه. وماعزّز من قوة هذه الشائعة عدم فتح باب المتجر.
لكن يتفاجأ أهل البلدة بظهور الأحدب من جديد إذ كل الشواهد تشيرُ إلى أنّ الأخير يحظى بإهتمام صاحبة المتجر. ولو لم يأتِ إبن خالتها إلى البلدة لما تحوّل المتجر إلى مقهى ينعم فيه عمّال المصنع بالإسترخاء.
وبما أنّ الراوي متحكِّم بدفة السرد لذلك فهو ينقلُ على لسان سيدة ماكفيل نشوء علاقة عاطفية بين أميليا وإبن خالتها، هنا يتوقف السردُ لتسمع رأي الراوي عن الحب ولماذا يُفضلُ الإنسانُ أن يُحِبَ بدلاً من أن يُحَب؟ زيادة على ماسبق مع توالي مقاطع الرواية يتضحُ بأنّ السيدة عاشت حياة زوجية مع "مارفن ميسي" لمدة قصيرة لم تتجاوز عشرة أيام، لكن لا يُتوَّج الحب بعلاقة أبدية.
عودة السجين
بعد فشل تجربته مع أميليا يغادرُ مارفن ميسي البلدة ويتنفس الجميع الصعداء بغياب الفتى الشرير. لكن لا يمضي وقت طويل قبل أن يعود إلى البلدة. وهكذا يتصاعدُ التوترُ ويتسارع الإيقاع وصولاً إلى ما يعقبُ من الأيام مع رجوع مارفن ميسي. وعوض أن يقع إصطدام بين زوج سابق وعشيق جديد للسيدة أميليا كما يفترضُ القارئ، يكون الأحدب تابعاً لمارفن ميسي دون أن يثير ذلك التصرف غضب أميليا، أو يؤدّي إلى نفورها منه.
فيما يتسمرُ الأحدب في مصاحبة مارفن ميسي في كل الأمكنة يواصل كل من السيدة أميليا ومارفن ميسي التلويح بالتهديد ضد بعضهما بصرياً، فيرتفع عدد الزوار الى المقهى مترقّبين المواجهة بين صاحبة المقهى ومارفن ميسي.
برعت الكاتبة في رسم حالة الترقب واندماج الحضور في اللحظة بحيثُ ينصبّ كل الإهتمام على ما يدور على الخشبة. ترجَّح الكفة لصالح أميليا وتطيح بخصمها أرضاً، لكن ما يراه الجمهور غير متوقع مرة أخرى، إذ ينقضّ الأحدب على المرأة وتنقلب المعادلة رأساً على عقب وتنهزم السيدة أميليا. ومن ثم يعيث الإثنان في ممتلكاتها فساداً ويغادران البلدة وتبقى أميليا وحيدة.
هذا العمل بقدر ما هو بسيطٌ في الأسلوب بقدر ما هو عميق الدلالة والتأثير في المشاعر، ويكشف ما تختزنه أشياء عادية من شحنات حميمية هائلة. وأنت تطوي الرواية لا تغادرك المشاهد كأنك شاهدت فيلماً للتو.
ومن هنا لا يبحثُ المتلقي عن ثيمات معيّنة طالما هو على موعد للتعرّف الى الجانب الحميمي في ما أهملتهُ الذائقة المُستهجَنة، ما يحرّكُ شريط السرد في رواية "أنشودة المقهى الحزين" للكاتبة الأميركية كارسن ماكالرز، الصادرة عن مسكيلياني 2017.
زائر الليل
تقدّمُ لك كارسن ماكالرز طبيعة الحياة في إحدى البلدات الأميركية حيثُ تدرك للوهلة الأولى خلوَّ العمل من النتوءات والحشو. تلجأُ الكاتبةُ إلى تقنية الحذف المباشر وتفقزُ على مُدَدٍ زمنية طويلة لذا يكون ما هو أساسي وجوهري في العملِ ماثلاً في مجال إهتمام القارئ.
تبدأُ الرواية بجملةٍ تُعَمّق لديك ما توحي به عتبة العنوان من أهمية عنصر المكان وما يُخيّم على فضاء العملِ من أجواء كالحة، وإيقاع يراوح بين سعادة خجولة وحزن غليظ.
يسرد الراوي حياة الآنسة أميليا وهي توارثت عن أبيها متجراً لبيع العلف وذرق الطيور والسلع الغذائية. تتقاطع يوميات سيرة هذه السيدة الموسرة مع يوميات البلدة الكئيبة، إذ إتسمت الحياة بالرتابة وتكرار المشاهد بجانب المتجر الذي تقطر فيه أميليا الحولاء الشراب.
صاحبة المتجر تعيش وحيدة وحققت مكاسب مالية كبيرة بحيثُ تؤهلها أموالها لأن تكون عضواً في الكونغرس على حدّ وصف الراوي لولا ولعها بتقديم الدعاوى القضائية حول مسائل في غاية التفاهة. لكن يقعُ ما يخلّص مسار السرد من الركود ويشرّع الباب على إحتمالات وتوقعات لدى المتلقي، وذلك عندما يصل رجلٌ أحدب إلى متجر البلدة ويبكي على مرأى السيدة أميليا.
القادم شخص غريب الأطوار يدعي بأنَّه إبن خالة أميليا ويأخذ بشرح تفاصيل صلة القرابة بينه وبين السيدة الغنية، فيكسبُ الرجلُ بشق الأنفس مكاناً لنفسه عند إبنة خالته.
إختفاء غامض
ما يثير إستغراب أهل البلدة ويعطيهم الفرصة للإسترسال في إفتراضاتهم وتخميناتهم هو تواري الأحدب عن الأنظار لعدة أيام، حيثُ يتداولون فيما بينهم عدة سيناريوهات منها مقتل الغريب على يد تلك المرأة ودفنه. وماعزّز من قوة هذه الشائعة عدم فتح باب المتجر.
لكن يتفاجأ أهل البلدة بظهور الأحدب من جديد إذ كل الشواهد تشيرُ إلى أنّ الأخير يحظى بإهتمام صاحبة المتجر. ولو لم يأتِ إبن خالتها إلى البلدة لما تحوّل المتجر إلى مقهى ينعم فيه عمّال المصنع بالإسترخاء.
وبما أنّ الراوي متحكِّم بدفة السرد لذلك فهو ينقلُ على لسان سيدة ماكفيل نشوء علاقة عاطفية بين أميليا وإبن خالتها، هنا يتوقف السردُ لتسمع رأي الراوي عن الحب ولماذا يُفضلُ الإنسانُ أن يُحِبَ بدلاً من أن يُحَب؟ زيادة على ماسبق مع توالي مقاطع الرواية يتضحُ بأنّ السيدة عاشت حياة زوجية مع "مارفن ميسي" لمدة قصيرة لم تتجاوز عشرة أيام، لكن لا يُتوَّج الحب بعلاقة أبدية.
عودة السجين
بعد فشل تجربته مع أميليا يغادرُ مارفن ميسي البلدة ويتنفس الجميع الصعداء بغياب الفتى الشرير. لكن لا يمضي وقت طويل قبل أن يعود إلى البلدة. وهكذا يتصاعدُ التوترُ ويتسارع الإيقاع وصولاً إلى ما يعقبُ من الأيام مع رجوع مارفن ميسي. وعوض أن يقع إصطدام بين زوج سابق وعشيق جديد للسيدة أميليا كما يفترضُ القارئ، يكون الأحدب تابعاً لمارفن ميسي دون أن يثير ذلك التصرف غضب أميليا، أو يؤدّي إلى نفورها منه.
فيما يتسمرُ الأحدب في مصاحبة مارفن ميسي في كل الأمكنة يواصل كل من السيدة أميليا ومارفن ميسي التلويح بالتهديد ضد بعضهما بصرياً، فيرتفع عدد الزوار الى المقهى مترقّبين المواجهة بين صاحبة المقهى ومارفن ميسي.
برعت الكاتبة في رسم حالة الترقب واندماج الحضور في اللحظة بحيثُ ينصبّ كل الإهتمام على ما يدور على الخشبة. ترجَّح الكفة لصالح أميليا وتطيح بخصمها أرضاً، لكن ما يراه الجمهور غير متوقع مرة أخرى، إذ ينقضّ الأحدب على المرأة وتنقلب المعادلة رأساً على عقب وتنهزم السيدة أميليا. ومن ثم يعيث الإثنان في ممتلكاتها فساداً ويغادران البلدة وتبقى أميليا وحيدة.
هذا العمل بقدر ما هو بسيطٌ في الأسلوب بقدر ما هو عميق الدلالة والتأثير في المشاعر، ويكشف ما تختزنه أشياء عادية من شحنات حميمية هائلة. وأنت تطوي الرواية لا تغادرك المشاهد كأنك شاهدت فيلماً للتو.
الأكثر قراءة