حكاية مَن كَشَفت نضال الأشقر... وبأيّ طريقة؟!
راكيل عتيِّق
Friday, 28-Oct-2016 00:17
مسرح صغير والحاضرون كُثُر، «بيت الضيق بساع ألف صديق»، فهو مسرح المدينة، كلّ المدينة. خيمة افتراضية مُزيّنة بأضواء وكأنها خيمة رمضانية وكأننا في أحد الأحياء الشعبية، أو كأننا في إحدى الضيع «مش من زمان». أخذتنا نضال الأشقر إلى ضيعتها وروت لنا حكايتها. هي وخالد العبدالله وزياد الأحمدية والعود. مُهروِلةً وكأنها تلك الطفلة التي تركض في ساحة الضيعة، دخلت وصعدت على خشبة المسرح. أخبرت، غنّت، أدّت... وسَحَرت. في تلك الليلة كانت حكواتية ومغنية وممثلة وامرأة وطفلة وإنسانة متمرّدة... ما قدّمته يجب أن يُعاد وأن يُعرض عبر شاشات التلفزة. بمنهج فكري مسرحي غنائي أصيل اختَتمت احتفالية 20 سنة على تأسيس مسرح المدينة.
اختارت الممثلة والمخرجة ومؤسسة مسرح المدينة نضال الأشقر اختتام «احتفالية 20 سنة على تأسيس مسرح المدينة»، مساء الأربعاء بعرض حكواتي مسرحي موسيقي تحت عنوان «مش من زمان» مع الفنان خالد العبدالله، استعادت فيه حكايتها، إنما لتستعيد من خلالها حكاية فترة من التاريخ اللبناني وحكايات عدد من الشخصيات. وتَبع العرض حفل موسيقي لفرقة زكي ناصيف تحت عنوان «على العهد لمئة جديدة».

مش من زمان... كتير

لم تفقد ذرّة واحدة من تواضع أهل الضيع، كما لم تفقد من زخمها ومن تمرّدها، من انفتاحها ومن تحرّرها... والأهم من قابلية تجديد الأفكار والأعمال والرؤية والطروحات مع الحفاظ على المبادئ الفكرية السياسية والفنّية! مش من زمان... مش من زمان كتير، نشأت نضال الأشقر في بيت «ما في لا درزي ولا شيعي ولا علوي ولا مسيحي... في إنسان».

هي ابنة عائلة فكرية سياسية، في منزل والدها، اختبأ عدد من المفكرين الكتاب والشعراء، أخبرت حكايتهم من دون أن تُسمّيهم، فأعطت اسم جورج لأحدهم ومحمد لأحد آخر... حتى خوري الضيعة الياس كان «غير»، منفتحاً يحبّ شرب «العرق». في منزل والدها في ضيعتهم تزوّج شيعي من مسيحية.

كانت تحبّ الأعياد وتنتظر «بائع السمسمية». فتاة «نوريّة» في ساحة الضيعة ترقص والابتسامة مرسومة على وجهها وشعرها الأسود الطويل يتراقص على كتفيها، أشعلت في نفس نضال الصغيرة الغيرة، ومن دون تردّد اقتربت ورقصت معها، فكانت ساحة الضيعة مسرحها الأوّل وأهلها جمهورها الأول... لتنزل من الضيعة وتؤسس للمدينة مسرحاً. وأيّ مدينة. مدينة بيروت.

عندما تغنّي نضال الأشقر

ما قدّمته نضال الأشقر وخالد العبدالله مسرحاً آخر، يرتقي إلى مستوى فكري فنّي عالٍ بعمقه من دون فلسفة ولا بهرجة. شكلاً، الجلسة حميمة، قريبة، مريحة. الفن الحقيقي أساسه كلمة ونغمة، ما من داعٍ لإنتاجات ضخمة وبهرجات مرئية تضيّع المحتوى. أداء نضال الأشقر حكواتي تمثيلي، تعبّر بيديها، بعينيها، بصوتها، الذي يعلو أو يخفت على وتيرة أحداث الحكاية. زياد الأحمدية يعزف، تحكي نضال على صوت العود، ليكمل خالد حكايتها كلاماً أو غناءً.

ليتبادلا الأدوار بتخطيط مُسبَق مُهندَس و»مبكّل». أجمل الأغنيات الكلاسيكية الطربية واللبنانية تداخلت مع حكاية نضال الأشقر. فاجأت نضال الأشقر الجميع بغنائها، لم يكن صوتها مُغنياً إلّا مُعبّراً «مرتين» عما تقوله كلاماً، «نزّلني في بلدي بلا أمريكا بلا أوروبا ما فيش احسن من بلدي». وأمتعتنا!

هذا العرض الذي لا تتخطّى مدته الساعة يعرّف المشاهد إلى شخصيات تاريخية بطريقة ذكية مموّهة تحثّ على البحث والتفكير، يقدّم أجمل الأغنيات التي طبعت تاريخ الأغنية العربية بصوتين جميلين، نضال وخالد، ناهيك عن عزف زياد الأحمدية وخالد العبدالله.

ويُعلّم كيف تُروى الحكاية، وكيف يكون الأداء، كيف يكون التمثيل وامتلاك المسرح والاستحواذ على آذان وعقول الحاضرين... والممثل جالس على كرسيٍّ يقرأ! من الضروري أن تستمرّ نضال الأشقر بتقديم هذا العرض. وافقتها آراءها السياسية أو لم تفعل، ستتمتع كثيراً وتصفّق لها ولخالد العبدالله كثيراً، تماماً كما فعل جميع الحاضرين في مسرح المدينة ليل الأربعاء، ومنهم السيدة لمى تمام سلام وعدد كبير من الشخصيات والفنانين من شتى الميادين الفنّية والثقافية.

زكي ناصيف... اللحن الأزلي

امتلأ مسرح المدينة مُجدّداً، ودخلت إليه حلاوة النغم مُجدداً حوالى الساعة العاشرة والربع. اعتلت المسرح فرقة زكي ناصيف للموسيقى العربية في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) بقيادة العميد المتقاعد جورج حرو، فقدّمت الفرقة المؤلّفة من موسيقيين وكورال، غالبيتهم من طلاب وموظفي الجامعة، 14 أغنية للراحل زكي ناصيف، أوائل آباء الأغنية اللبنانية. لحوالى الساعة والنصف تذكّرنا واستمتعنا بأجمل الألحان منها: هلي يا سنابل، حلوه ويا نيالها، أهواك، نقيلي أحلى زهرة، يا بلادنا واشتقنا كتير.

الأصوات الفردية التي قدّمت بعض الأغنيات غير باهرة، ولا يمكن أن نقول إنّ العزف متناغم وآسر بشكلٍ مطلق. لكنهم هواة وليسوا محترفين! لكان حفلاً لا يُنسى لو تمّ تقديم الألحان الخالدة بصوتٍ يوصل حلاوة النغم بكمش نوتة من الأعلى أو أخرى من العمق.

في الختام، صعدت نضال الأشقر على خشبة المسرح وإلى جانبها عدد من الفنانين الذين شاركوا بإحياء احتفالية مرور 20 سنة على تأسيس مسرح المدينة، وشكرت جميع مَن شاركوا بنحو 28 عرضاً مسرحيّاً أو غنائيّاً أو موسيقيّاً، أو بعروض راقصة وأفلام ومسرح دمى... من 14 إلى 26 تشرين الأول الحالي.

«راجع يتعمّر لبنان» عزفت فرقة زكي ناصيف في الختام، الفنانان عبد الكريم الشعار وزياد الأحمدية رافقاها بصوتيهما، الكورال شبكوا الأيدي «عالدبكة»، نضال الأشقر تجول ترقص وتغنّي. مسرح المدينة يُعمّر لبنان، مسارح كلّ مدينة في لبنان. بلدٌ من دون مسرح، أين يعبّر عن ذاته وآرائه وانقساماته واختلافاته... وهمومه ومعاناته؟!
الأكثر قراءة