تقاليد الجيرة بين العشائر المارونية والشيعية
صبحي منذر ياغي
دراسات عليا في العلوم السياسية والادارية - عضو نقابة الصحافة اللبنانية -أمين سر في مجلس النواب- حائز على عدة جوائز في مجال الاعلام منها جائزة الشاعر سعيد عقل في تشرين الثاني 2002 - عمل في مجلة النهار العربي والدولي وفي جريدة النهار - صاحب مجلة اضاءاتصبحي منذر ياغي - دراسات عليا في العلوم السياسية والادارية - عضو نقابة الصحافة اللبنانية -أمين سر في مجلس النواب- حائز على عدة جوائز في مجال الاعلام منها جائزة الشاعر سعيد عقل في تشرين الثاني 2002 - عمل في مجلة النهار العربي والدولي وفي جريدة النهار - صاحب مجلة اضاءات
Thursday, 07-Jun-2012 01:52
شكلت منطقة بعلبك - الهرمل الحيّز الأساسي لوجود العشائر والعائلات الكبيرة، وكانت كلمة «عشائر» في ما مضى، توحي فور سماعها بعادات وتقاليد عربية أصيلة تتميز بها العشائر، كالشجاعة والكرم وتكريم الضيف وإغاثة الملهوف...
أجمَعَ عدد من علماء الاجتماع على تعريف "العشيرة" بـ"جماعة من الأفراد ينتسبون إلى عصب واحد، أي يتحدّرون من أب واحد، وتربطهم عصبية واحدة تتمثل بولائهم وانتمائهم إلى العشيرة".

ويعتبر الباحث الدكتور عثمان دلول أنّ "الشهرة أو الكنية التي تعيّن هوية النسب للأفراد لا تعدو كونها أحد المظاهر الشكلية للانتماء إلى عصبية عائلية أو عشائرية، والنسب بذاته لا حقيقة اجتماعية له، ولا منفعة ترتجى منه إلّا بمقدار ما يؤدي إلى العون والمناصرة والتضامن بين أفراد العصبية الواحدة".

ويوضح دلول أنّ "العشيرة ملزمة الدفاع عن أفرادها، وأفراد العشيرة ملزمون الدفاع عن عشيرتهم إذا أصابها ضيم أو تهددتها مهلكة، إنه نظام تكافل تضامني بين العشيرة ككلّ اجتماعي، وبين أفرادها كأجزاء من هذا الكل".

وإذ يرى دلول أنّ "النظم العشائرية في طريقها إلى الزوال، حتى في أكثر البلدان قدماً بعشائريتها"، إلّا أنه يؤكد من جهة أخرى أنّ "الروح العشائرية، أو ما يمكن تسميتها بالإيديولوجية العشائرية، لا تزال مغلغلة في نفوس الناس والمجتمع اللبناني الذي عرف بعضاً من هذه النظم العشائرية ولو بشكل مفكّك وغير مكتمل العناصر والمكوّنات، وما زال حتى أيامنا يمتاز ببعض العناصر الإيديولوجية العشائرية الموروثة منذ ما قبل نظام الإقطاع الذي ساد في القرون الوسطى".

العشائر في الهرمل

تظهر منطقة بعلبك - الهرمل أنها المكان الأبرز لانتشار العشائر، فيوضح ياسين شمص، في دردشة مع "الجمهورية"، أنّ "أصول معظمها تعود إلى بطون وأفخاذ قبائل عربية كانت تسكن في منطقة اليمن، دفعتها العوامل الطبيعية والصراعات القبلية إلى الهجرة نحو منطقة النخيلية في السعودية، ثم نحو العراق، ومنه إلى حلب وصولاً إلى مناطق جبيل وكسروان".

ويرى الدكتور محمد علي مكي في كتابه "لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني" أنّ النتيجة الكبرى "لتفريغ كسروان من سكانها الشيعة، هي أنّ الهجرة المارونية بدأت بتشجيع من أصحاب الإقطاع الكسرواني، وعلى رأسهم العائلات التركمانية من بني عساف". وهذا ما يفسر اليوم وجود عائلات وعشائر شيعية في قرى وبلدات مناطق جبيل والبترون وكسروان، كآل شمص، المقداد، زعيتر، حمادة، حيدر احمد، حجازي، الحسيني، شريف، حيدر، علام...

الهرمل: الثقل العشائري

تعتبر مدينة الهرمل، ومنطقتها التي تلاصق الحدود السورية، مركز الثقل العشائري في لبنان، فهي تضمّ عشائر: زعيتر، ناصر الدين، علوه، دندش، جعفر، علام، حمادة... إضافة إلى انتشار عشيرة المقداد في سهل مقنة - بعلبك، وحمية في طاريا، والمصري في مناطق بريتال حورتعلا، وشريف في اليمونة.

ويقول فادي ريحان: "قد يتخيّل المرء حين يسمع كلمة عشيرة... رجالاً بلباس عربي تقليدي يحملون البنادق ويبحثون عمّن يطلقون عليه النار بسبب الصورة المسبقة والمقولبة التي رسمت عن العشائر في مخيّلة العامة من اللبنانيين.

صورة تتعلق بالعنف والنهب الذي تمارسه العشائر في سياق تطورها ومد نفوذها وسيطرتها على المناطق التي توجد فيها، أو بسبب ارتباط هذه الصورة بعشائر الدول العربية المجاورة في الأردن والعراق وشبه الجزيرة العربية، والتي تقدمها الأفلام السينمائية والمرويات على أنها تعتمد على الغزو في سبيل عيشها، والقتال في سبيل السيطرة.

ولكن في الحقيقة فإنّ العشائر اللبنانية في الجرد الهرملي لم تكن على هذه الصورة سابقاً، أي في بدايات القرن الماضي، ولا هي كذلك الآن في بدايات الألفية الثالثة.

العشائر والسياسة

لقد كان لعشائر بعلبك دورها الأول في معارك الاستقلال اللبناني عبر التاريخ، حيث خاضت معظمها. وسجّل التاريخ ملاحم بطولية لأبناء العشائر في مواجهة الجيش التركي والفرنسي، كرشيد سلطانة دندش، ابو علي ملحم قاسم، زين مرعي جعفر (بطل معركة وادي فيسان 1926)...

لقد خاضت العشائر غمار الحياة السياسية منذ عهود الانتداب الفرنسي حتى اليوم، فكان الرئيس صبري حمادة احد أركانها، وتربّع زمناً طويلاً في سدة رئاسة مجلس النواب، وكان للعشائر نوّابها: فضل الله حمادة، فضل الله دندش، محمد دعاس زعيتر، علي حمد جعفر، يحيى شمص، غازي زعيتر...

كما انتمى عدد كبير من أبناء العشائر إلى الأحزاب السياسية العلمانية والوطنية، وشكّل هؤلاء الخزّان الحقيقي لحركة المحرومين "أمل" التي اطلقها الإمام موسى الصدر عام 1974، والذي عمل جاهداً للقضاء على عادة "الثأر" السائدة لدى هذه العشائر، والسير بها نحو مجتمع اكثر أنسنة وتقدماً وتطوراً.

انحسار دور العشائر

ويرى أنطون شعبان أنّ "انحسار دور العشائر هذه الأيام يعود إلى توزّع أفرادها على مختلف التيارات والأحزاب التي شاركت في الحرب اللبنانية، وإلى تلاشي مناطق نفوذها التاريخية، وانكسار العلاقة بين السلطة المركزية والعشائر نتيجة ولادة قوى سياسية جديدة ذات نفوذ أوسع وأشمل وأكثر فاعلية ممّا كان عليه نفوذ العشائر سابقاً، وتوزّع أفراد العشائر بين موال لحركة "أمل" و"حزب الله" وبين متحالف مع التقليد، وبين من يحاول أن يعيد إنتاج العصبية من دون أن يعلم انه فقد موضوعياً شروط تلك الإعادة".

عشائر مسيحية

والعشائرية في رأي أنطون شعبان ليست محصورة بالطائفة الشيعية، فهناك عشائر مسيحية في منطقة بعلبك تعرف بـ"البشرانية" نسبة إلى بلدة بشري المنشأ الأساسي لهذه العائلات، وأهمها: كيروز، ورحمة، وفخري (النداف)، وسكر، وطوق (خضرا)، وجعجع. وهي تنتشر في دير الأحمر، وبشوات، وشليفا، ونبحا، وبرقا، والقدام، والصفرا،
وعيون ارغش...

ويشدد شعبان على أنّ "هذه "العصبيات" العشائرية المارونية تتشابه في كثير من المفاهيم والأعراف والقيم والتقاليد مع "العصبيات" الشيعية في بعلبك والهرمل، وتتقاطع معها حول كثير من المفاهيم والمعايير الاجتماعية، وتربطها تاريخياً أواصر الودّ والاحترام المتبادل. ويتفق أبناء كل من "العصبيتين" الشيعية والمارونية على أنّ منشأهما واحد، أي شمال لبنان.

وبناء على تقاليد الجيرة يعتبر بعضهم البعض الآخر "حمّال دم"، أي مطالب تقليدياً بـ"حمل دم" جاره، أي "بأخذ ثأره" إذا ما تعرض لمكروه".

عادات وتقاليد

وللعشائر عادات وتقاليد كثيرة، حتى وإن أصبحت في طريقها إلى الزوال، ومنها: إكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، وعادات جميلة تشهدها المآتم والأفراح. وللعباءة دور مهم في تقاليد العشيرة، فهي رمز العزة والكرامة، وتدلّ على شرف ابن العشيرة وتمسكه بعاداته وتقاليده.

فقد ارتدى البدو العباءة منذ قديم الزمان، وهي التي تدل على السيادة والوجاهة وترتبط بالتقاليد العشائرية، فعندما تخرج العروس من منزل أهلها ترتدي العباءة للدلالة على مكانتها بين عزوتها ونخوتها وأهلها وأنها خرجت بثوب العفاف والعزة والجاه والسترة، وعندما يرتدي العريس العباءة فذلك يعني أنه أصبح رب أسرة.

وبالتالي، عند وفاة شيخ العشيرة، لا بدّ من توَلّي ابنه زعامة عشيرته، وقد يستطيع تولّيها أقرب الناس إليه أو من يستحقّ هذا المنصب.

وهكذا درجت عادة لبس العباءة، فهي مبايعة من أبناء العشيرة لسيدهم وزعيمهم الجديد. ومن تقاليد انتقال السلطة العشائرية لا بد من إعلان تتويج الشيخ من خلال لبسه العباءة التي ترمز الى الحميمية والدفء والرابطة القوية بين أفراد العشيرة الواحدة والتمسّك بتلك الرابطة.

والحسب والنسب يفرضان على الشيخ أن يشاور بني عشيرته بكلّ صغيرة وكبيرة، وعليه أن يجالسهم ويستمع إلى وضيعهم ورفيعهم.

وفي هذا الصدد يقول محمود شمص: "إنّ للمآتم طقوسها العشائرية، فعندما يتوفى كبير القوم مثلاً يتم إرسال أوراق النعي (النعوات) إلى البلدات والقرى والعشائر الأخرى التي ترسل وفودها لتقديم التعازي.

وعندما يصل كل وفد إلى مكان التشييع، يرحّب به المستقبلون، وفي كثير من الأحيان تُطلق الأعيرة النارية ترحيباً، وتقام المآدب التي تتكون من المناسف، أي الرزّ ولحم الغنم واللبن والفواكه، وتقدّم القهوة المرة وسط حداء مجموعة الشعراء الذين يعزفون على آلة الربابة، وهم يعددون فضائل الفقيد ومآثره وبطولاته ورجولته قرب طاولة توضع عليها أسلحته، من البندقية إلى الخنجر والسيف والترس وبعض قطع من لباسه وصوَره، ثم يأتون بفرسه الموشحة بالسواد لتتقدم موكب التشييع.

أما في الأعراس فتختلف الطقوس، إذ يتبارى القوم في الدبكة، بحيث يرأس وجيه القوم الفرقة، وتقام حفلة رقص بالسيف والترس، وسط دق الطبول والزغاريد التي ترافق العريس الذي يعمل الحلاق على قصّ شعره وتلوين اصبعه بمادة "الحنّة"، وفي بعض العشائر تقام مباريات في رفع الجرن والمحدلة والأوزان الثقيلة.

الثأر: أبشع العادات

إنّ عادة الثأر هي من أسوأ العادات العشائرية، وأبناء العشائر يرددون دوماً مقولة "أخد التار مَنّو مِعيَار"، أو "ما تخَلّو إبنكن يروح رخيص"... وغيرها من العبارات التي تتردد داخل العشيرة لحظة سقوط احد أبنائها برصاص بعض الأشخاص، فتغلي دماء الثأر في عروق شباب العشيرة، وترمى العباءات والكوفيات والعقالات على "ضريح القتيل"، وتعلو الصرخات من أقاربه وأبناء عشيرته معاهدة: "وحياة شرفك مش رح تروح رخيص"...

وفي أكثر الأحيان يأتي أهل القتيل بالقاتل إلى قرب ضريح ضحيته، ويعدمونه فوق القبر وسط الزغاريد وإطلاق العيارات النارية ابتهاجاً. لكنّ هذه العادة المتوارثة عن العهود الجاهلية، وإن تراجعت أو خَفّت حدتها، إلا أنها ما زالت متأصلة في نطاق العشائر في مناطق بعلبك - الهرمل، وعكار، وزغرتا وبشري... والتي تعتبر في مفاهيمها أنّ "غَسل العار بأخد التار".
الأكثر قراءة