د. خالد العزّي
Wednesday, 17-Dec-2025 07:52
حربُ الأخبار الكاذبة: جزءٌ من حرب هجينة

يُعتبر النشر المنتظم للأخبار الكاذبة، يليها تفنيدها، عنصراً أساسياً في أي جهاز سياسي تقريباً. ويُتيح هذا التكتيك اختبار ردّ فعل الجمهور الدولي، وكذلك التنفيس عن التوترات السياسية الداخلية. ويمكن اعتبار هذا جزءاً من الحرب الهجينة، التي تشمل مجموعة من الوسائل غير التقليدية، مثل التضليل الإعلامي والاستخبارات السيبرانية.

الخبر المُزيَّف حول أوكرانيا

في أواخر تشرين الأول، أفادت صحيفة «وول ستريت جورنال»، التي كانت تحظى بسمعة طيِّبة في مجال الأعمال، بأنّ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفعت القيود المفروضة على استخدام أوكرانيا للصواريخ بعيدة المدى. أثارت هذه المعلومات شكوكاً مُبرَّرة لدى بعض الأوساط الأكاديمية والخبراء. ووصف موقع «روسيا في الشؤون العالمية» المقال بأنّه «وابل من حرب المعلومات بعيدة المدى». وبعد ساعات قليلة، سارع ترامب إلى دحض المقال ووصفه بأنّه مزيَّف.

 

الهدف من الأخبار الكاذبة: اختبار ردّ الفعل

لا يمكن اعتبار مثل هذه المنشورات مجرّد أخطاء صحافية عارضة. فصحيفة WSJ هي واحدة من الصحف الرائدة، ومن غير المرجّح أن تنشر خبراً مزيَّفاً تماماً. بدلاً من ذلك، يعتقد البعض أنّ الخبر كان تسريباً مدبَّراً أو انعكاساً لصراع بين فصائل داخل السلطة الأميركية. ويُمثل ذلك نموذجاً لاختبار ردّ فعل الكرملين أو حتى حلفاء الولايات المتحدة. والهدف يمكن أن يكون محاكاة تصعيد، واختبار ما إذا كان الكرملين سيتفاعل مع مثل هذا التوتر على الساحة الدولية.

 

الجغرافيا السياسية تتطلّب من القادة اختبار قوّة بعضهم البعض بشكل مستمر، لاسيّما في سياق سياسة القوى العظمى. ففي مثل هذه الأوقات، تُصبح القوى الكبرى مهووسة بمعرفة متى سيتراجع أحد الأطراف.

 

الردّ الروسي على الأخبار الكاذبة

من المثير للاهتمام أنّ الكرملين شعر بأنّه مُجبَر على الردّ على ما نُشِر، حتى بَعد نفي ترامب. في تصريح صحافي، حذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من ردّ «مفاجئ» على قرار رفع القيود على الصواريخ بعيدة المدى. كما أوضح ديمتري بيسكوف، السكرتير الصحافي للكرملين، أنّ النقاش كان يدور حول الضربات بعيدة المدى في عمق الأراضي الروسية بشكل عام، وليس فقط حول صواريخ «توماهوك». وقد رافقت هذا التصريح تدريبات نووية استراتيجية كان مخطَّطاً لها منذ فترة طويلة.

 

رسائل متوازنة بين البيت الأبيض والكرملين

كانت النتيجة المتوقعة، وهي أنّ الجمهور الغربي بدأ يتعلّم عن «بوريفيستنيك»، الصاروخ الروسي الحديث، بينما كانت وسائل الإعلام الغربية تحاول فهم ماهيّته. في هذه الحالة، كانت الولايات المتحدة والكرملين يتبادلان الرسائل بشكل متوازن، إلّا أنّ الكرملين كان أكثر تحديداً وإقناعاً، إذ ردّ على الأخبار الكاذبة بأخبار حقيقية.

 

محاكاة التأثير على ترامب

إذا كان المقال محاولة للتأثير على ترامب، فإنّ هذا التكتيك لم ينجح كما كان يُتوقع. ربما كان الهدف منه «تقييد» ترامب في القضية الأوكرانية عبر الضغط عليه للإلتزام بمواقف معيّنة، كما يحدث أحياناً في التفاوض. لكن، كما تُظهر التجربة، لا تنجح مثل هذه التكتيكات دائماً في السياسة الكبرى. فالتأثير على شخص مثل ترامب، لا يُقاس كما في المفاوضات التجارية البسيطة، ويصعُب تطبيق قواعد البيع والتفاوض اليومية على القضايا الكبرى مثل الترسانة النووية.

 

ترامب وحرب أوكرانيا

في ما يتعلّق بالقضية الأوكرانية، لا يعتقد ترامب أنّ التراجع عن هذا الموضوع سيكون في مصلحة الولايات المتحدة. فعلى رغم من تصريحاته الحادة ضدّ روسيا، إلّا أنّه يدرك أنّ الصين هي المنافس الجيوسياسي الرئيسي للولايات المتحدة، وأنّ أي تدهور في العلاقة مع روسيا قد يساهم في تقوية تحالف الصين وروسيا. من هنا، يمكن القول إنّ استراتيجية ترامب المثلى في أوكرانيا هي محاكاة النشاط الديبلوماسي والعسكري، بما في ذلك دورات الإفصاح والإنكار.

 

تُظهر هذه الديناميكيات أنّ الأخبار الكاذبة ليست مجرّد كذبات عابرة، بل هي جزء من حرب هجينة تُستخدَم لاختبار الخصوم وكذلك المناورات السياسية داخل البلدان الكبرى. وعلى رغم من أنّ التكتيك قد لا يؤدّي دائماً إلى التأثير المتوقع، فإنّ مثل هذه الألعاب السياسية تظل جزءاً من عالم الجغرافيا السياسية، التي يسعى فيه القادة دائماً إلى اختبار القوّة.

 

إنّ الحرب المعلوماتية، بما في ذلك نشر الأخبار الكاذبة، أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من الحروب الهجينة المعاصرة التي تستخدمها الدول الكبرى لاختبار ردود الفعل الدولية والمحلية على قراراتها وأفعالها. كما يظهر من خلال حالة WSJ، والتكتيك الذي استخدمته الولايات المتحدة لاختبار موقف الكرملين، فإنّ الأخبار الكاذبة ليست مجرّد حوادث صحافية، بل جزء من استراتيجيات سياسية تهدف إلى التأثير على التوازنات السياسية وتحقيق أهداف محدَّدة.

 

من خلال هذه الديناميكيات، نرى أنّ القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا، لا تكتفي بإدارة سياساتها وفقًا للواقع فقط، بل تسعى أيضاً لاختبار ردود الأفعال في ساحة السياسة العالمية، ممّا يُضفي على الأحداث طابعاً معقّداً من التفاعل المستمر بين الأجندات المحلية والدولية. وفي هذا السياق، تبقى الأخبار الكاذبة عنصرًا حيوياً في حروب المعلومات، التي تستهدف التأثير في الرأي العام ومواقف الدول، سواء عبر التضليل أو المناورة السياسية.

 

وفي النهاية، تبقى هذه الأساليب جزءاً من طبيعة السياسة الدولية اليوم، إذ تصبح الحروب الهجينة أداة لا غنى عنها في صراع القوى، وتستمر الدول الكبرى في استخدام كل الوسائل المتاحة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية.