محمود القيسي
Thursday, 09-May-2024 07:02
"إعرف عدوّك".. لا مفرُّ!

كتب شاعر فلسطين وأبعد.. الشاعر محمود درويش قائلاً: «كم سَنَهْ قلنا معاً: أنا لا أَشاءُ، ولا تشائين. اتفقنا كُلُّنا في البحر ماءٌ. كم سَنَهْ كانت تُنَظِّمنا يَدُ الفوضى.. إني أَعترفْ وسأعترفْ بجميع أَخطائي... كَمْ سَنَهْ نحن البدايةُ والبدايةُ والبدايةُ... كم سَنَهْ وأَنا التَوَازُنُ بين ما يجبُ؟... وأَنا التوازُنُ بين مَنْ جاءوا ومن ذهبوا.. وأنا التوازُنُ بين مَنْ سَلَبُوا وَمَنْ سُلِبوا.. وأَنا التوازُنُ بين من صَمَدُوا وَمَنْ هربوا.. وأَنا التوازُنُ بين ما يَجِبُ: يجبُ الذهابُ إلى اليسارْ يجبُ التوغُّلُ في اليمين يجبُ التمترسُ في الوسطْ يجبُ الدفاعُ عن الغلطْ يجبُ التشكُ بالمسارْ يجبُ الخروج من اليقينْ... وأنا أُحبك، سوف أحتاج الحقيقةَ عندما احتاج تصليح الخرائط والخططْ أَحتاجُ ما يجبُ.. يجبُ الذي يجبُ...».

نعم، يجبُ الذي يجبُ.. اعرف عدوّك.. لا مفرُّ.. اعرف عدوّك: قول مأثور أُستُخدم في أكثر من مكان، وفي أكثر من زمان.. وفي أكثر من موضع تاريخي نظراً إلى أهميته في كل زمان ومكان... وأكثر من مجال عبر التاريخ القديم والتاريخ الحديث... وخصوصاً تاريخ الحروب وأسبابها وأبعادها ونتائجها وويلاتها.. هذا ناهيكم أيها السيدات والسادة عن مدى تشعباته واستخداماته.. والتي أضحت مادة تُدرّس في أعرق الجامعات والمعاهد والمدارس المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية.. تُدرّس في أقوى الدول وأكبر المنظمات والجمعيات والمؤسسات والشركات... وأقوى الجيوش عدة وعدداً وتطوراً لما فيه من عوامل رئيسية حاسمة في تغيّر مسار الحروب وتغيير نتائجها.. القول المأثور الذي أصبح شرطاً ومفهوماً رئيساً في مفهوم القوة وشروطها وقوانينها (في الممالك).. في الممالك التي أختارها يوماً من الأيام المفكر والفيلسوف الإيطالي «نيكولو مكيافيلي» الذي أثار الجدل على مرّ العصور، وسيبقى عنواناً لكتابه الأشهر قبل إن يُطلق عليه أسم «الأمير».. نظرية «اليد القذرة والقفّاز النظيف» في فن الممكن والسياسة والحكم استرضاءً لأميره «لورينزو الثاني دي ميديتشي» من ناحية.. واستعادة منصب أمين الجمهورية في قصر الحكم من ناحية مكيافيلية أخرى في تلك الحقبة من الزمن في القرن الخامس عشر.. قرن، أو بداية عصر سقوط الثيوقراطية وانطلاق الثورة الصناعية وعصر التنوير في القارة الأوروبية التي أصبحت عجوزاً تسير على عكّاز في أيامنا هذه.

 

سُئل الأستاذ ميشال إده يوماً: ما هي جريدتك اليومية المفضّلة؟ فأجاب بإيجاز ونبرة شكسبيرية دقيقة: جريدة العدو الصهيوني «هآرتس»، لأنني أبدأ يومي بقراءتها. وأضاف، إنّ قراءة العدو أساسية في فهم ماذا يخطّط لنا.. وبالتالي في رسم خطواتنا لمواجهته. وأشار إلىّ أنه يمتلك مكتبة مهمّة من الدراسات والكتب والإستراتيجيات التي يضعها الكيان الصهيوني حول العالم العربي...

 

في بدايات النكبة الفلسطينية، كان سعيد تقي الدين يقدّم في الإذاعة اللبنانية، برنامجاً عنوانه «إعرف عدوّك»، تماثلاً مع قول أرسطو: «أيها الإنسان، اعرف نفسك». وكان تقي الدين مقتنعاً بأنّ الوسيلة الوحيدة لمواجهة الصهيونية والإسرائيليين هي معرفتهم ودراسة نقاط ضعفهم وقوّتهم. وهو ما لم يحدث على الإطلاق وما تسبّب في نكسة وراء هزيمة.. وهزيمة تلو الهزيمة... اعرف عدوّك مقولة مشهورة قديمة جديدة، وهي نصيحة غالية ومسألة حياة وموت وحاجة ملحّة حرص عليها الأولون ولا يزال يتمسّك بها الآخرون... قبل اغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كانت النصيحة الإسرائيلية للإعلام هي: حيثما يتمّ ذكر الفلسطينيين اذكروا الإرهاب حتى يقترن الإرهاب في أذهان العالم بالفلسطينيين. ينتهي مضمون رواية «إعترافات عربي طيب»، ليورام كانيوك أو يوسف شرارة - حيث ثمة التباس في من هو كاتب هذه الرواية، وأيهما الاسم الحقيقي - إلى الشعار الأيديولوجي الصهيوني الأشهر: أنّ العربي الطيب هو العربي الميت.

 

اعرف عدوّك كما تراه وليس كما يريد أن تراه. نعم، اعرف عدوّك كما تراه كي تتمكن من مواجهته بكفاية كما هو.. كي تواجهه بقوة الإرادة وإرادة القوة والعلم والمعرفة والكفاية. اعرف عدوّك الذي فخخ الماضي والحاضر والمستقبل وزرعه بالمطبّات التاريخية والألغام.. نعم اعرف عدوّك الذي زوّر التاريخ وسرق الهويات وعبث بخطوط خرائط طول وعرض الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا.. اعرف عدوّك الذي خطف (أل) التعريف من اللغة كي لا تدخل على الأسماء والأماكن والمسميات... عدوك الذي اسقط (أل) التعريف من وسائل التعيين التي تزيل الإبهام بدخولها على الاسم النكرة. نعم، اعرف عدوّك لا مفرُّ.. اعرف الصهيونية العالمية التي هي في حقيقةً الامر تناصب العالم كله العداء المطلق من مهد الحضارة الأولى إلى قبر نهاية التاريخ والإنسان والعالم. أعرف اصطلاح الصهيونية العالمية الذي يستخدم للتمييز بين البدايات الصهيونية مع أحباء صهيون التي كانت شبه ارتجاليّة تعتمد على صدقات أغنياء اليهود وبين صهيونية هرتزل التي حولت المسألة اليهودية إلى مشكلة سياسية، وخلقت حركة منظمة محدودة الأهداف والوسائل والأدوات. ويرى الصهاينة السياسيون أنّ المشكلة اليهودية ناتجة من عدم مقدرة اليهودي على الاندماج، وأنّ معاداة السامية مرض متأصّل في المجتمعات الغربية لا شفاء منه إلّا بهجرة اليهود وتجمّعهم في وطن خاص في فلسطين (أو في أمكنة أخرى) خاصة بهم، ليكوّنوا بذلك قومية وشعباً شأن القوميات والشعوب الأخرى على اراضي شعوب أخرى وحسابها... ولا يتمّ ذلك إلّا بإشراف المجتمع الدولي وبضمان الدول الكبرى (الامبريالية) ومصالحها، لأنّ المشكلة اليهودية ذات طابع دولي يحفظه القاصي والداني.

 

نعم، اعرف عدوّك كما تراه وليس كما يريد أن تراه.. اعرف عدوك كما تراه كي تتمكن من مواجهته بكفاية العلوم قاطبة.. وعلوم الكفاية.. كي تواجهه بقوة الإرادة وإرادة القوة والعلم والمعرفة.. نعم، بقوة وكفاية العلم والمعرفة... وتذكّر دائماً إنّ الصهيونية السياسية الكولونيالية العالمية عدو كل العالم من دون أستثناء يُذكر او لا يُذكر... وتذكّر ما قاله الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في شتاء ريتا الطويل: «تدورُ ريتا حَوْلَ ريتا وَحْدَها: لا أرْضَ للجسَدَيْن في جَسَدٍ، ولا مَنْفىً لمَنْفَى في هذه الغُرَف الصَّغيرَة، والخُروجُ هو الدُّخولُ»... شاعر الجدارية، وحجر كنعاني في البحر الميت.. ولاعب النرد... درويش الذي تحوّل لغة.. لغة مقاومة تهتدي بها شعوب العالم كله... نعم، اعرف عدوّك هرتزل وشركائه من الإمبرياليين الذين أدركوا إمكانية الاستفادة من المخططات الأمبريالية الغربية في مسعاها لإستعمار فلسطين كل فلسطين نظراً لتفكّك السلطة العثمانية والتسابق الامبريالي المحموم على المستعمرات وعلى فلسطين خصوصاً، نظراً لموقعها الجغرافي المهمّ، علاوة على قيمتها التاريخية والمعنوية. ولهذا فقد حاول هرتزل وشركاؤه التقرّب والتحالف مع مختلف الإمبرياليات الغربية في ذلك الوقت، إلّا أنّ الفرصة لم تسنح إلّا خلال الحرب العالمية الأولى عندما اتضح أنّ العرب يتّجهون نحو الاستقلال والوحدة، الأمر الذي يهّدد المصالح الامبريالية، فكان «وعد بلفور» والزواج الامبريالي البريطاني الصهيوني المعروف للصديق والعدو.. وقد أثرت الصهيونية السياسية بنحو أو آخرعلى جميع التيارات الصهيونية كبيرة كانت او صغيرة..!

 

«يرى الصهاينة في الرفض اليهودي التاريخي للصهيونية تعبيراً عن كره اليهودي لنفسه».. هكذا تتعاطى الصهيونية العالمية مع كل من يعادي أو يختلف في الرأي مع مصالحها وخططها الشيطانيّة حتى لو كان حاخاماً يهودياً من بني جلدتها! نعم، هكذا تتعاطى الصهيونية العالمية مع كل من يختلف معها.. لذا أصبح من الخطأ على كل من يتعاطى في الشأن السياسي القول إنّ كل يهودي صهيوني وإن كل صهيوني يهودي، إذ أنّ كثيرين من اليهود رفضوا وما زالوا، يرفضون الصهيونية. وهناك كثيرون من اليهود المرموقين الذين وقفوا هذا الموقف من أمثال «المر برغر» و «ايزاك دويتشر» و «ادوين مونغيو» وكثيرين غيرهم.. عندما عرض هرتزل كتابه «الدولة اليهودية» على حاخام فيينا استنكر الأخير فكرة الوطن «القومي» اليهودي، وعندما حاول عقد «المؤتمر الصهيوني الأول في ميونيخ عارض يهود المدينة ذلك مما أضطره إلى نقل مقر المؤتمر إلى «بازل» في سويسرا. وهناك أربع مدارس أو مذاهب في الرفض اليهودي للصهيونية تاريخياً:

 

1- «الرفض الارثوذكسي»: وهو رفض ديني ينطلق من أنّ العودة إلى «ارض الميعاد» لا يمكن ان تتمّ إلّا بعد ظهور «الماشيح المنتظر» في آخرة الأيام، وبالتالي فأنّ الصهيونية بخطواتها الشيطانية في هذا الاتجاه تتدخّل في الخصوصيات الإلهية. ومثّل هذا الاتجاه في الأساس تكتلاً سياسياً يدعى «اجودات إسرائيل» إلّا انّ هذه الجماعة شأنها شأن الجماعات اليهودية تكيّفت نوعاً ما مع التيار «القومي» اليهودي الكاسح ولم يبق من ممثلين للرفض الارثوذكسي بعد «تذويبه» سوى «نواطير المدينة».

 

2- «الرفض العلمانى الاندماجي»: يذهب كثيرون من اليهود المندمجين في مجتمعاتهم إلى أنّ الصهيونية تخلط بين الدين والقومية، وانّ ولاء اليهود يجب ان يكون للدولة التي يعيشون فيها وأن ليس هناك «تاريخ يهودي مستقل» وانما يشارك اليهود كأقلية في تاريخ المجتمعات التي ينتسبون إليها. وانّ حل ما يُسّمى المسألة اليهودية لا يتمّ إلّا من خلال المزيد من الاندماج اليهودي في المجتمعات التي يعيشون فيها. وانّ الصهيونية تقف عقبة أمام ذلك سواءً بالنسبة الى إثارة مشكلة الولاء المزدوج عند اليهودي أو بالنسبة إلى الرواسب والماضي وعقلية «الغيتو» عوضاً عن إلغاء التميّز والنضال من أجل المساواة في كل المجتمعات البشرية. وقد عبّر عن ذلك دينياً «اليهودية الإصلاحية» وسياسياً «المجلس الأميركي لليهودية». انّ اتجاه هذا المجلس إلى التخفيف من تصدّيه للصهيونية دفع الدكتور برغر إلى الانسحاب منه وتكوين جمعية بديل يهودي الصهيونية.

 

3- «الرفض الاشتراكي»: ينطلق الرفض الاشتراكي ـ اليهودي للصهيونية من نظرة عامة الى مشكلة الأقليات، ويربط اضطهاد هذه الأقليات بالعوامل الخاصة بكل مجتمع. ويخلص إلى الاستنتاج أنّ قيام المجتمع الاشتراكي من شأنه حل المشكلة اليهودية في شرقيّ اوروبا. وكانت الصهيونية أداة في محاربة انضمام اليهودي إلى الحركات الاشتراكية والثورية. وكان من العوامل المعجّلة في إصدار «وعد بلفور» عقب قيام الثورة البلشفية وإقبال الشباب اليهودي عليها مما دفع بالساسة البريطانيين إلى محاولة جذب أنظارهم إلى فلسطين عوضاً عن الثورة في روسيا. والواقع أنّ هذا التيار أصيب بالاضمحلال في العقود التي تلت إصدار «وعد بلفور» إلّا انّ وضوح الطبيعة العنصرية للصهيونية وارتباطها العضوي بالاستعمار دفعا بكثير من الشباب اليهودي اليساري في الغرب إلى الوقوف ضدّ إسرائيل وخصوصاً في أوروبا الغربية.

 

4- «الرفض القومي الدياسبوري»: ينطلق دعاة هذه المدرسة في معاداة الصهيونية من حقيقة كون اليهود أقلية قومية تكوّنت في المنفى (الدياسبورا) وانّ الحل يكون بالنضال لتثبيت الهوية القومية لها بالدفاع عن حقوق اليهود حيث هم، وبالتالي فهم يشجعون اللغة «اليديشية» لا العبرية ويعارضون الذهاب إلى فلسطين ويعتبر «البوند» تعبيراً عن الفكرة وبيروبيدجان السوفيتية تنفيذاً عملياً لها في تلك الحقبة تاريخياً.

 

وفي أربعينيات القرن الماضي، كان للمجلس الأميركي لليهودية موقف حاد معادٍ للصهيونية، حيث أكّد أنّ أعضاءه يهود بفعل الدين وحده، وهذا كان يعني استبعاد فكرة القومية السياسية تمامًا، ولم يكتف المجلس بذلك، بل ذهب إلى أنّ ديانة هؤلاء الأعضاء تجعل من الواجب عليهم أن يأخذوا موقفاً عالمياً، وهو موقف كان يعني مناصرة العرب، ومعاداة الرؤية القومية اليهودية، والأكثر من ذلك أنّ فكرة الولاء المزدوج كانت مصدر قلق كبير لدوائر يهودية كثيرة، خصوصاً في الدول الغربية، خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. ولا بدّ هنا من أن نؤكّد أنّ الموقف الرافض للصهيونية تعرّض لضربتين حاسمتين كانتا علامة على الهزيمة الكاملة؛ أولاهما في عام 1948، مع قيام دولة الاحتلال، والأخرى، وهي الأقوى، في عام 1967 بعد الهزيمة المدوية للدول العربية، والتي أدّت إلى انضواء غالبية الإصلاحيين اليهود تحت راية الصهيونية. الحياة الآن لا يحكمها مفهوم الحق والباطل ولا مفهوم الأخلاق والمبادئ والمثل العليا كما يقول أمبرتو إيكو... الحياة يحكمها مفهوم القوة والضعف... الذكاء والغباء... التكيّف أو الاندثار... فحقك لا بدّ من أن تأخذه بالقوة والذكاء والتكيّف مع الواقع... فقد تطورنا عبر ملايين السنين من كائنات تفترس بعضها البعض مادياً إلى كائنات تفترس بعضها مادياً ومعنوياً ونفسياً وحقوقياً أيضاً.

 

تطرح رواية «إعترافات عربي طيب» وتدور حول المأساة التي أسمها فلسطين، إلى جانب دولة الحرب التي أسمها إسرائيل، من خلال توتر الشخصية المزدوجة الأصول، لكن هذه الشخصية الروائية ـ لعلّها سيرة هذا الازدواج ـ شخصية فارغة، من حيث إنّها تعبير عن المأساة وحسب وفاعليتها في الفقدان. ومن جانب آخر تكشف عن عنصرية الكيان الصهيونى، ما توزعها بحياد على كل الشخصيات، التي تظهر على مسرح هذه الرواية، وإن كانت في إطار المسكوت عنه تقدّم خطاطة عامة للبنية الداخلية للمجتمع الصهيوني، وتكشف تفكّكه المعروف على المستوى الديموغرافي، وكذا المستوى البنيوي الفكري لهذا المجتمع اللامجتمع. وكأنّها من ناحية تعرّفنا بحالة شاذة، ومن الممكن القول مستحيلة، لتأسيس دولة الأساطير، التي وقائعها ليست من نتاجها، ولكن محصلة مجتمعات أوروبية، فإسرائيل هذه حسب الرواية نتاج أزمة الفكر والفعل الأوروبيين، والبنية السردية الاعترافية، هي من تراث مسيحي يومئ لمفهوم الخطيئة المسيحية أكثر من أنّه مجرد حيلة روائية، أما الجزء الثاني من اسم الرواية وكذا كوجيوتها، فإنّه الشعار الأيديولوجي الصهيوني الأشهر، كما جئنا على ذكره أعلاه: أنّ العربي الطيب هو العربي الميت فقط!