طارق ترشيشي
Friday, 26-Apr-2024 07:41
الياس المر تجرّأ حيث لا يجرؤ الآخرون

‏صادقٌ كان الياس المر وشفّاف في ما أعلنه من مواقف خلال إطلالته التلفزيونية الأخيرة على قناة «الجديد» مع الزميلة سمر ابو خليل، اذ جاءت أقواله صريحة وبعيدة من أي مجاملة او ممالأة لأيّ كان. وبجرأته المعهودة أيّد هذا وانتقد ذاك غير آبه بما يمكن أن يكون من ردود افعال، لأنّ الواقع الذي وصلت إليه البلاد بات يفرض تسمية الأشياء بأسمائها بعيداً من أي مصلحة شخصية.

أن ينبري دولة نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والداخلية السابق الياس المر الى اطلاق «رشقة» من المواقف الجريئة في هذه المرحلة حيث لا يجرؤ الآخرون، وعلى وقع «الرشقات الصاروخية» التي يمطر بها «حزب الله» المواقع الاسرائيلية شمال فلسطين المحتلة، فذلك أمر بالغ الاهمية ويستدعي كثيرين الى التوقّف عنده طويلاً لاستكشاف ابعاده والخلفيات. فالرجل معروف بجرأته لدى الجميع ممّن عملوا معه او عرفوه، ولكن الجرأة هذه المرة، وفي ظل المرحلة الخطيرة التي يمر بها لبنان والمنطقة، لم تكن عادية وجاءت لتعبّر عن شجاعة كبيرة يتردد كثيرون في اللجوء اليها، خصوصا مِمّن هم اصحاب اصطياد المناسبات واقتناص الفرص لتحقيق مصالح آنية ضيّقة على حساب المصالح الوطنية.


فالرجل الآتي من عالم الامن والسياسة الدوليين بعد عشر سنوات من العمل رئيساً لمؤسسة الانتربول ولم يَغب فيها للحظة عن لبنان، سليل بيت سياسي عريق ويمتلك من الخبرة والجرأة والشجاعة ما يمكنه من قول الحقيقة وأن لا يخشى في قولها لومة لائِم، فلبنان دوماً في دائرة اهتمامه أينما حل، وطوال السنوات العشر الماضية لم يتردد في رفد البلد بأي دعم ممكن، وأبرز ميزة فيه انه سريع البديهة وبِحَدثه يتوقع الاحداث ومآلاتها قبل وقوعها، فيتراءى له ما خلفها وما بعدها في وضوح، بدليل انه كان اوّل من اكتشف خيوط شبكات الارهاب ومنظماته في لبنان والمنطقة قبل ان تولد وتتكاثر، وهو الشاهد و»الشهيد الحي» الذي دفع حياته ثمن ما دلّ اليه وما بذله من جهد لقطع دابر هذا الارهاب قبل استفحاله، وكانت الحرب على المتطرفين من «فتح الاسلام» وغيرها في مخيم نهر البارد اوّل غيثه في هذا المجال.


وفي اطلالته التلفزيونية الاخيرة قدّم المر قراءة آنية ومرحلية واستراتيجية للاحداث الجارية في لبنان والمنطقة، ومن موقع العارف توقّع ان يكون للبنان رئيس جمهورية قبل الانتخابات الرئاسية الاميركية المقررة الخريف المقبل، ومن موقع خبرته في علم السياسة اللبنانية وعائلاتها وقواها استخلص انّ الزعيم سليمان فرنجية هو الأصلح لرئاسة الجمهورية نظراً لصدقه وجرأته في قول الـ«نعم» حيث يجب والـ«لا» حيث يجب، لحلفائه قبل الخصوم.


ومن موقع العارف ايضا، نطق المر بتوصيفٍ واقعي لحال القيادات السياسية ولا سيما منها المسيحية من خلال خبرته في التعاطي معها، فرفض التحالف مع بعضها وعدم ثقته بالبعض الآخر، علماً انه فصل بين هذه القيادات وبين قواعدها الحزبية والشعبية عبر نصحه لنجله النائب ميشال المر بالتحالف مع الجيل «القوّاتي» الشاب لا مع قيادته، ومن الطبيعي ان لا يتحالف مع من حُكِم َعليه بالاعدام في قضية محاولة اغتيال والده المرحوم ميشال المر الذي كان جبلاً في متن الجبل قلب لبنان، وعَفا وسامحَ قبل سنوات من انتقاله الى السماء، تاركاً خلفه جبلاً من الانجازات الكبرى التي لن ينساها المتنيّون ولا اللبنانيون في السياسة كما في الانماء، ما أعطى عائلته مزيداً من الالتصاق والتجذر في البنية الاجتماعية اللبنانية وأبقاها مقصداً دائماً لكل طالب عون أيّاً كان.


على انّ اهمية ما قاله الياس المر يكمن في انه اراد ان يقول للمسيحيين انه لا بد من تغيير المسار والحفاظ على الوجود والمصير عبر الانطلاق في مسار جديد يعيد الاعتبار والفعالية لدورهم في لبنان والشرق والذي كان دائما دوراً بنّاء ودافعاً الى التطوير والتفاعل مع كل الحضارات، بما يخرجهم من عقدة الاقلية ومن التقوقع تحت عنوان الخوف من الآخر، فهو يعتبر انّ بقاء المسيحيين وديمومتهم يكمنان في عيشهم وتفاعلهم مع الآخر بما يعزّز الحوار بين الديانات وإقامة بناء حضاري يُحتذى حول العالم.


وقمة الجرأة في مواقف المر تمثلت بموقفه من «حزب الله» الذي تكاد تتكالب كل الامم عليه في هذه المرحلة لخوضه حرباً استراتيجية ضد اسرائيل على جبهة الجنوب جَنّبت لبنان تفجر المخيمات الفلسطينية براكين نصرة لغزة من شأنها ان تطيح كيان لبنان واستقراره. فقد بادر الحزب الى التصدي لاسرائيل الهادفة الى إنهاء القضية الفلسطينية وتذويب اللاجئين الفلسطينيين او من يتبقّى منهم في لبنان وبقية دول الشتات ليتسنّى لها اقامة «الدولة اليهودية الخالصة» على ارض فلسطين التاريخية «من البحر الى النهر».


وتكمن جرأة المر في موقفه من «الحزب» انه انحازَ الى الدفاع عنه في الوقت الذي يتحامل عليه آخرون من قيادات مسيحية وغيرها بدلاً من ان يَحموا ظهره في هذه المعركة، التي يرى المرّ فيها دفاعاً عن لبنان قبل ان تكون دفاعاً عن القضية الفلسطينية بتخفيفه الضغط العسكري عن قطاع غزة عبر معركة استنزاف اسرائيل ومُشاغلتها لكي توقف حربها التدميرية هناك.


وما يميّز الياس المر خصوصا في المراحل الخطيرة هو انه يكون دوماً السبّاق في قراءاته الاستراتيجية للاحداث وابعادها وخلفياتها، فهو في ما قاله لم يُمالئ «حزب الله» سعيا وراء مصلحة آنية او مستقبلية، فقد كان بينهما سابقا «ما صنعه الحدّاد»، والعلاقة بينهما غير مستقرة الى الآن، ولكن يسودها الاحترام المتبادل، والصداقة بينه وبين الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله ورئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد هي صداقة متينة، الا انه وعلى رغم انه غير «مُغرم» بالحزب وانّ الحزب غير «مُغرَم» به كما قال، يعترف للحزب ان الحرب التي يخوضها في الجنوب هي للدفاع عن لبنان ما يستوجِب ان يكون هو والجميع الى جانبه فيها متجاوزين اي مصالح آنية او ضيقة، لأن مصير البلد هو المطروح وليس مصير حزب او فئة من شعبه.


ولذلك، فإن الصوت الذي رفعه الياس المر كأحد القادة في المجتمع المسيحي هو بهذا المعنى بمثابة ألف صوت، لأنه يدرك ان لا خيار للمسيحيين الا بالعيش مع اللبنانيين الآخرين وان لا خيار لهؤلاء الا بالعيش مع المسيحيين، ولذلك أطلق المر قولته إزاء «حزب الله» بأنه «لا يمكننا كمسيحيين ان نبني بلدا من دون «حزب الله» وبقية اللبنانيين الذين لا يمكنهم في المقابل ان يبنوا بلداً من دون المسيحيين». وكما قال فإنّ المصلحة الوطنية تفرض على الجميع التعاون معاً لأجل مستقبل لبنان وأجياله.


ولذلك، فإن قمة الجرأة في موقف المر، تتمثّل في ما قاله حول «حزب الله» والحرب التي يخوضها ضد اسرائيل على جبهة لبنان الجنوبية، فهو بهذا الموقف تميّز عن كثيرين من القيادات السياسية ولا سيما المسيحية منها التي ترفض هذه الحرب وتتهم الحزب بتوريط لبنان فيها، وهو موقف وجده الحزب وحلفاؤه وآخرون يصبّ في مصلحة اسرائيل التي تستغلّه لتلعب على التناقضات اللبنانية لإثارة النعرات والقلاقل بين اللبنانيين، فجاء موقف المر ليؤكد انّ المسيحيين ليسوا جميعاً ضد الحرب التي يخوضها الحزب دفاعاً عن لبنان بكل أطيافه.


والى ذلك وعندما اكد المر انه لا يثق بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان وخصوصاً في ما يتعلق بقضية محاولة اغتياله واتهام «حزب الله» بها، إنما كشف المستور عما دُبِّر للبنان في ليل خلف المحكمة، بدليل وَصْفه المحقق الدولي ديتليف ميليس بأنه «أزعر». وهذه العبارة لا يمكن المر ان يستعملها لو لم يكن مدركاً خطورة ما يعرفه من خفايا حول الجهات التي تقف خلف المحكمة ولا تريد الخير للبنان وشعبه.